من الطاعون الأسود إلى كورونا.. ماذا تترك الأوبئة في المجتمعات؟

كتب : أهل مصر

يترك فيروس 'كورونا المستجد' بصمته على كل نواحي الحياة، فقد أصيبت دول بأكملها بالشلل، وأغلقت حدود، كما تباطأت الاقتصادات العالمية، وأقفلت المدارس أبوابها، ووقعت خسائر مهولة للبورصات العالمية، واضطرت الحكومات لرصد المليارات لمواجهة الوباء، ما استدعى إلى الذاكرة ما أحدثته الأوبئة الكبري في العالم كالطاعون الأسود في القران الرابع عشر، والإنفلونزا الإسبانية عام 2018، والملاريا عام 2015، وصولا إلى وباء كورونا.

ورغم أن أوروبا في القرون الوسطى وبعد خروجها من الحرب العالمية الأولى تختلف كثيراً عن عالم ومجتمع اليوم في ظل وسائل التواصل والإنترنت والعولمة، فإن 'انتشار وباء ما يشكل دوماً امتحاناً لمجتمع وحقبة'، كما يرى مؤرخ العلوم لوران هنري فينيو من جامعة بورغوني الفرنسية.

ويوضح فينيو لوكالة الصحافة الفرنسية، أن الوباء 'يهدد الروابط الاجتماعية، ويطلق العنان لشكل خفيّ من حرب أهلية يكون فيها الجميع حذراً من جاره'.

ويضيف: 'في هذه المرحلة، يظهر ذلك في المشاهد غير المعقولة لأشخاص يتدافعون في المتاجر على آخر حزمة من ورق المراحيض، والوضع أكثر مأساوية في إيطاليا، حيث يضطر الأطباء إلى اختيار مريض لإنقاذه بدلاً من آخر بسبب نقص المعدات، كما يحصل في زمن الحرب'.

'أحدثت الأوبئة الكبرى تغييراً 'في أنظمتنا الصحية'، كما يلحظ المؤرخ والخبير الديموغرافي باترييس بوردوليه، من مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية، فقد أنتجت مفهوم الحجر الصحي وابتكار أساليب للتعقيم.

ويشير عالم الجغرافيا فريدي فينيه، من جامعة بول فاليري في مونبيلييه، إلى أن الإنفلونزا المسماة 'الإسبانية' التي انتشرت أواخر الحرب العالمية الأولى كان لها 'أثر هيكلي على تاريخ الصحة'.

أنتج هذا الوباء العالمي الحديث الذي قتل 50 مليون إنسان حالة وعي بضرورة وجود إدارة عالمية لمخاطر الأمراض المعدية، وأنشأ جيلاً من الأطباء الشباب المختصين بالفيروسات.

من ناحية أخرى، 'وعلى صعيد السلوك، أدى انتشار الأوبئة إلى خلق ثقافة الحد الأدنى في المسافة بين الأشخاص، تفوق في المجتمعات الغربية ما هي عليه في المجتمعات الأخرى'، حسب المؤرخ باترييس بوردوليه.

عند انتشار الأوبئة أيضاً، هناك دائماً كبش فداء، وفق هذا المؤرخ، لافتاً إلى 'أننا شهدنا مرحلة كره تجاه الصينيين مع بدء ظهور الوباء'.

نصف سكان العالم واجهوا الملاريا

في عام 2015، واجه نصف سكان العالم تقريباً مخاطر الإصابة بالملاريا. ومعظم الحالات والوفيات وقعت في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، غير أنّ آسيا وأمريكا اللاتينية، وبدرجة أقل، منطقة الشرق الأوسط وبعض المناطق الأوروبية باتت تشهد أيضاً حدوث حالات من المرض، وقد شهد 91 من البلدان والمناطق استمرار سريان الملاريا في عام 2015.

وهناك بعض الفئات المعرضة لخطر الإصابة بالملاريا بوجه خاص أكثر من غيرهم، ويمكن أن تتطور إصابتهم إلى مرض حاد، وتشمل هذه الفئات الرضع، والأطفال دون الخامسة من العمر، والحوامل والمصابين بالأيدز والعدوى بفيروسه، بالإضافة إلى المهاجرين الذين لا يملكون المناعة اللازمة، والسكان المتنقلين والمسافرين، وتحتاج البرامج الوطنية لمكافحة الملاريا إلى اتخاذ تدابير خاصة لحماية هذه الفئات السكانية من عدوى الملاريا، مع الأخذ بعين الاعتبار ظروفهم الخاصة.

وفقا لأحدث تقديرات المنظمة والتي صدرت في ديسمبر 2016، بلغت حالات الإصابة بالملاريا 212 مليون حالة وحالات الوفاة 429000 في عام 2015. وفي الفترة ما بين عامي 2010 و 2015، انخفض معدل الإصابة بالملاريا بين السكان المعرضين للمخاطر بنسبة 21% على الصعيد العالمي؛ وخلال الفترة نفسها، انخفضت معدلات الوفيات من جراء الملاريا بين السكان المعرضين للمخاطر بنسبة 29%. وتم تفادي ما يقدر بنحو 6.8 مليون حالة وفاة من جراء الملاريا على مستوى العالم منذ عام 2001.

الطاعون الأسود

خلال مرحلة وباء الطاعون الذي غزا أوروبا في العصور الوسطى بين عامي 1347 و1351، بات السكان اليهود هدفاً لهجمات، وأحياناً مجازر كما حصل عام 1349 في ستراسبورغ، حين أُحرق نحو ألف يهودي.

قادت مراحل انتشار الطاعون الكبرى إلى 'ردود فعل ذات طابع أبيقوري' بمعنى البحث عن اللذة واستباق الأمور وصرف الأموال من دون حساب. ويشير الباحثان ويليام نافي وأندرو سبايسر في كتابهما 'الطاعون الأسود 1345 - 1730'، إلى أن الناس في تلك المراحل 'اختاروا التوجه إلى الملاهي والحانات، وعاشوا كل يوم كما لو أنه الأخير'.

وعلى العكس، اختار آخرون الابتعاد عن العالم، كما يورد الكاتب الإيطالي بوكاتشيو (1313 - 1375)، الذي يروي في كتابه 'الديكاميرون' (الكوميديا البشرية) كيف حجز عشرة فلورنسيين أنفسهم طوعاً خارج فلورنسا هرباً من الطاعون.

ويشير مؤرخ العلوم لوران هنري فينيو، إلى أن 'الأوبئة نتاج مشترك بين الطبيعة والمجتمعات، بين الميكروبات والبشر، الجراثيم لا تصبح خطيرة إلا في ظروف معينة'، هكذا غزا الطاعون الأسود أواخر القرن الرابع عشر '.

أوروبا التي كانت مزدهرة وكانت فيها المبادلات التجارية كثيفة والمدن مزدحمة ورحلات الاستكشاف في ذروتها'، حسب فينيو، استفاد الطاعون من هذا الازدهار، ووضع حداً له، وأعلن نهاية نظام العبودية الذي قام عليه مجتمع القرون الوسطى، كما يشرح فينيو.

ويوضح عالم الجغرافيا فريدي فينيه أنه في عام 1918، كان لوباء الإنفلونزا نتائج اقتصادية 'ضئيلة جداً في النهاية بالمقارنة مع آثار الحرب في أوروبا'، وهذا استثناء، لأن القاعدة العامة تقوم على أن للأوبئة آثاراً اقتصادية مهمة، فهي 'توقف المبادلات' و'تعيد توجيه التجارة نحو سبل أخرى'، وفق المؤرخ بوردوليه.

في القرون الوسطى، من المحتمل أن يكون انتشار أوبئة الطاعون المتكرر في حوض المتوسط قد أسهم في نمو مدن شمال أوروبا، حسب بوردوليه. ويضيف أن الأزمات الصحية المتكررة في الصين اليوم، مركز التصنيع في العالم، قد تحفز على تنويع مواقع الإنتاج والتزويد في العالم.

WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً