رمضان في النمسا 2020.. في غمرة الانشغال بالتطورات الصحية وتقلبات اقتصادية تعطل سير الحياة الاجتماعية، وبينما تُلقي الأزمة الوبائية الناجمة عن تفشي فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) بكامل ثقلها على الحياة العامة في هذا البلد الأوروبي، فإن لشهر رمضان لدى الجالية المسلمة المقيمة هناك خصوصية لا يحجبها الحجر الصحي، تنبثق هذه الخصوصية من حجم وتنوع الجاليات المسلمة المقيمة بالنمسا، حيث تلتئم عادات من ثقافات ومشارب شتى لإحياء سيد شهور السنة لدى المسلمين، تُذكي ما يكتسيه من هيبة وروحانية، وُتجسد أسمى مقاصد العبادة عبر سلوكيات يملؤها العطاء والتآزر.
رمضان في النمسا (أرشيفية)
حلول الشهر الفضيل هذا العام في ظرفية لم تكن في الحسبان في بلد وصل إجمالي الإصابات بالفيروس به إلى 16201، والوفيات إلى 629 حالة بحلول اليوم الثلاثاء 19 مايو 2020، لم يثني الجاليات المسلمة في النمسا عن العناية بأدق التفاصيل؛ حيث بلغت الاستعدادات ذروتها عشية قدومه، كما جرت العادة، بالملبس والمأكل وزينة الجدران، وإن تقيدت حرية التنقل ولقاء الأهل والأصدقاء في الصلوات الجماعية والولائم، تظل قيم الرحمة والتضامن معينا لا ينضب.
أطفال يتلون القرآن داخل مسجد في النمسا (أرشيفية)
وتبقى أهم مقاصد هذا الشهر هي التزين بالقيم الفضلى والثناء لله مستحق الحمد، وذلك وفقا لـ"حنيفة"، وهي بوسنية الأصل مقيمة بالنمسا منذ ثلاثين عاما، والتي تقول، في حديثها لوكالة المغرب العربي للأنباء، إن "هذه هي القيم الثابتة التي يفترض ألا تتأثر بأي ظرف كيفما كان"، معتبرًة أن الرهان خلال رمضان في ظرفية "كونية" استثنائية هو "استعادة كل منا لتوازنه الروحي، رغم الوباء الذي يحبس أنفاسنا ويشغل بالنا بحال أحبائنا بالوطن وبلد الإقامة".
إفطار جماعي في النمسا (أرشيفية)
ورأت "حنيفة"، التي تعمل مساعدة اجتماعية بأحد دور رعاية المسنين، أن "اختبار كورونا (بحسب تعبيرها) فرصة لننفتح نحو رؤية مغايرة للعالم، نفتح قلوبنا للعطاء، إن توجسنا من فتح ذراعينا (في إشارة إلى خطر انتقال الوباء عبر العناق أو المصافحة باليد).
مائدة إفطار جماعي في النمسا (أرشيفية)
وأكدت حنيفة، وهي أم لطفلين، أن الوضع الطارئ أذكى خصوصية الشهر الفضيل ولم ينتقص منها البتة، فباستثناء غياب بعض الطقوس الجماعية كالزيارات والتجمعات والصلاة بالمساجد، يحتفظ رمضان بمكانة خاصة توقظ الحنين إلى ذكريات الطفولة، وصور مجالس الذكر والسمر الليلي وزينة الفوانيس في كل مكان.
النمسا (أرشيفية)
ما يزيد خصوصية رمضان هذا العام أيضا في تقديرها "ترويض النفس على الصبر والعدول عما بات محظورا أو غير مستحب بسبب الوباء، علاوة على الامتثال لتدابير السلطات النمساوية، التي تبذل قصارى جهدها لحماية ساكني البلاد، وبما فيه دفع الضرر عنا وعمن حولنا".
بعض أعضاء إحدى الجاليات المسلمة في النمسا (أرشيفية)
وخلال الشهر الكريم، وخاصة في ظل هذه الظرفية الاستثنائية، تكثر المبادرات الخيرية، ومنها التي يقوم عليها شباب من طلبة الجامعات والناشطين المدنيين، لتقديم يد العون للأشخاص المسنين ومحدودي الحركة ممن يقيد الوباء حركتهم أو يعرض حياتهم للخطر؛ حيث منح هذا الوضع الوبائي هؤلاء الطلاب فرصة للانخراط بشكل كبير في مثل هذه المبادرات التضامنية، لا سيما بعد توقف الفصول الدراسية والاقتصار على حصص افتراضية، ومن ثم الجمع بين العمل الخيري والتجربة المهنية في معاينة ورعاية بعض الحالات المرضية.
من داخل مصلى سيدات بأحد المساجد في النمسا (أرشيفية)
وكانت أجواء رمضان ما قبل الحجر في النمسا أجواء لا تخلو من البهجة؛ حيث كانت تعبق موائد الإفطار، سواء بالمنازل أو المراكز الإسلامية، بأطباق تعكس جانبا من موروث ثقافي متعدد المشارب، وفي أجواء تسمح بتعريف الناشئة بالطقوس الرمضانية ومكارم العبادات بالدين الإسلامي.
إفطار جماعي للاجئين السوريين في النمسا (أرشيفية)
وكسبيل إلى الخلاص من عبء متغيرات فرضها الوضع الصحي الطارئ، فإن العبادة والانبراء إلى كل ما هو روحاني في تَمثُّله ومقاصده، فضلا عن التضامن والعطاء في شقيهما القيمي والمادي، يبقى الملاذ الآمن من هواجس التطورات الوبائية التي تلقي بظلالها على الحياة اليومية لمسلمي هذا البلد.
مسجد في النمسا (أرشيفية)
وفي مواكبتها لهذا الطارئ الصحي، حرصت الهيئة الإسلامية بالنمسا على إطلاع أفراد الجالية المسلمة على جديد التدابير الرسمية وتلك المتعلقة بالشعائر الدينية، خاصة بعد حظر ارتياد دور العبادة لكافة الطوائف الدينية المعترف بها بالبلاد.
رجال دين مسلمين في النمسا (أرشيفية)
وفي رسالة بمناسبة شهر رمضان، قال رئيس الهيئة أوميت فورال "صحيح أن تعليق الصلوات الجماعية وقصر الإفطار على دائرة الأسرة الصغيرة يمثل تغييرا جذريا في طقوسنا المعتادة خلال شهر الصيام، لكن من المهم في الوضع الراهن إنارة منازلنا بالصلاة والتلاوة وتحويلها إلى مساجد".
رمضان في النمسا (أرشيفية)
رمضان في النمسا (أرشيفية)
كما أكد المسؤول، في الرسالة التي أوردها الموقع الرسمي للهيئة، أنه "بالرغم من بعد المسافات يمكننا الالتئام بأرواحنا من خلال الاستعانة بكل ما تتيحه التكنولوجيات الحديثة من وسائل سهلة وغير مكلفة للتواصل"، مثمنا التعاون الذي أظهره المسلمون في هذه الظرفية، وانخراطهم في مبادرات تطوعية عديدة لدعم جهود الحكومة الفيدرالية لحماية الصحة العامة.
من جهته، اتخذ المركز الإسلامي بفيينا مجموعة من التدابير للتكيف مع مستجدات الأزمة الصحية، من جملتها بث صلاة التراويح وخطبة الجمعة مباشرة عبر موقعه الإلكتروني وصفحته عبر موقع "فيسبوك" في مواعيد ثابتة، وعرض دروس يومية باللغة الألمانية في تفسير وتلاوة القرآن الكريم.