نحن المصريين لا تجمعنا لهجة واحدة ولا تربطنا ألسنتنا لكنة بعينها، فبيئاتنا- رغم عنا- تتحكم في حروفنا مطًا وقطعًا، جذبًا وشدًا، بل تتحكم كثيرًا فى أصواتنا ارتفاعا وخفضًا.
ففي القاهرة:
نتحدث بسرعة ونعمل بسرعة نحب ونكره ونفرح ونتألم بسرعة، ننسى كل شيء فى ما بعد، لأن إيقاع الحياة هنا أسرع من أي شيء، لذا فنحن نتكلم بسرعة وبصوت عال ومرتفع جدا، محاولين التغلب على صخب العاصمة والضوضاء حولنا .. نكره الأغبياء الذين يطلبون-ببلاهة وسذاجة- إعادة السؤال مرة أخرى، وتضيق صدورنا بالمتلكئين فى الطرق، فلا مجال فى حياتنا للبطء، فمن إيقاع حياتنا فى هذا الجحيم المدعو القاهرة ومن واقع خبراتنا به، أن من يبطء قد يموت فى حادث مترو او تحت عجلات سيارة مسرعة لن تتوقف او تحت أقدام المتدافعين فى الزحام، ولن يقف أحد أو يهتم بموته، فالحياة قد تفرض علينا مواجهة الموت كل لحظة ولا مجال للخطأ.. أو البطء.
فى الإسكندرية:
نشبه القاهريين فى أشياء كثيرة، حيث الصخب والضوضاء والسرعة، لكننا نمتاز عنهم بأننا على ناصية العالم، والحياة رغم أنها مفتوحة جدا، إلا انها موسمية إلى حد ما، نتعامل على اننا غرباء عن مدينتا فى الصيف، وقت أن يحتلها الريفيون ذوو الملابس الداخلية المحلية المنفرة، التى يسيرون بها فى الشوارع وينزلون بها البحر لأنهم جهلة اغبياء ولا يقرأون غالبا، لكننا نستعيدها منهم فى الشتاء سريعا بعد أن نكنس منها وعنها الذكريات القذرة للريفيين وأبناء العشوائيات والأقاليم، نتحدث بسرعة أيضا وبصوت عال، ولأن العالم أمامنا مفتوح على البحر، نجد أنفسنا- رغما عنا- نكره الأماكن المغلقة، والحروف المغلقة، والكلمات المغلقة، لذا فإن كلماتنا مفتوحة البدايات والوسط والنهايات، الفرد الواحد منا جماعة، ولا يجوز أن نتحدث أبدا بصيغة المفرد، لأن ذلك ينسف نظرتنا لأنفسنا ويقلل من هيبة أبناء ناصية العالم.
فى المدن الساحلية:
هل لأننا صيادون ترانا نشد الكلمات من منتصفها كأننا نشد سنارة؟ أم أننا نفعل ذلك لأننا نتعامل يوميا مع السمك؟ ومن كان رزقه فى البحر قد يبدأ الكلمات بشكل عادى جدا- كأنه يرمى سنارة- لكنه وفى اللحظة المناسبة يجذب الكلمة من منتصفها لتكون ناجزة المعنى واضحة البيان، لا نحب المدينة أو الأرياف إطلاقا، وقد لا نميل لليابسة عامة، لكننا نسكن فيها على أي حال فعليها زوجاتنا البدينات وأبناؤنا الذين يكرهون زفارة السمك ويحبون رائحة الورق والكتب، وهذا ما يهدد المهنة بخطر الانقراض لذا نكره المدارس والكتب والمدن الكبيرة التى تفسد الأبناء، وعندما نغنى فلا بد ان تكون أدوات غنائنا صغيرة لا ضخمة، نحبها وترية ونتحفظ على آلات النفخ، فآلاتنا حادة مثلنا، وأوتارها تشبه خيوط شباكنا وسنانيرنا القوية، لا نحب الصوت المرتفع لأنه يجعل السمك يهرب ولا نحب الصوت المنخفض لأنه يحعلنا ننام حيث يجب الصيد والسعى على الرزق لا النوم، نتحدث بعفوية وتلقائية، ورغم عدم تعلمنا إلا أن حياتنا تقوم على أرقام وحسابات دقيقة جدا، لأيام السنة وسرعات الرياح والنوات والعواصف، وأوقات الإبحار والصيد، وأوقات الراحة والنوم، لذا فكلماتنا تعبر عنا تماما.. صوت متوسط وحروف مشدودة بسنارة من جسم الكلمة ذاتها.
فى الأرياف:
لا نعرف لماذا دائما يتعجلوننا فى الحديث كان الشيطان يسكن ألسنتهم الحادة سريعة النطق، نحن لا نفهم حتى الآن لماذا يتعاملون معنا على أننا طرشان لا نسمع؟ نحن نعيش فى الطبيعة الساحرة الهادئة جدا، لأننا أبناؤها البارون بها، نحيا باللون الخضر ونقتات من خيراته، نزرع ونصبر نصف سنة تقريبا لنحصد المحصول، وأي عجلة أو تهور أو استعجال قد يفسد الأمر تماما، لذا فنحن نتأمل كل خطوة ونتذوق كل كلمة، لا حديث بسرعة أو عجلة ، فكل كلماتنا ممطوطة لقلة المواضيع المثيرة فى حياتنا، الكلمة الواحدة نريد جعلها عشرة والحرف الواحد فى الكلمة نعطيه أكثر مما يستحق من مساحة شاسعة كحقولنا، وعندما نترك قرانا بحقولها الممتدة وبأشجارها ونخيلها وترعها ودورها البسيطة الواطئة ونزور المدن نشعر أن الله يعاقبنا بالتيه واللجلجة والخوف، لا نستطيع فهم سكان المدن، كيف يتحدثون بسرعة وبصوت عال وبشكل خاطف ولا يعطون للكلام حقه؟ كيف يعيشون وسط كل هذه الأدخنة والأبخرة والآلات والسيارات، فضلا عن كيف تسعهم القاهرة بكل هذا الزحام؟ ثم لماذا لا يتيهون مثلنا، هل أدمنوا الحياة فى المتاهة وصارت المتاهة جزءا من أرواحهم البائسة؟ نخاف أن نخطئ، فنخطئ بالفعل، تدوسنا اقدام المارة والسيارات ونعود فى توابيت لقرانا، أو قد لا نعود ويكون مصيرنا مشرحة أحد المستشفيات الحكومية الباردة، نعتنى جدا بأزيائنا الملونة المزركشة، فهكذا نرى الحياة مبهجة لكنهم يسخرون منا دائما، رغم أنهم يرتدون بناطيل جينز ضيقة غير مريحة كجلابيبنا، وقمصانا قاتمة مثيرة للشفقة بعرقها المشمئز، وكأنهم يقدسون الموت ويحتفلون بضياع الإنسان بين تروس العولمة.
فى الصعيد:
الأرض صلبة والفقر المدقع يحاصر كل ما حولنا والحرارة المقيتة تجعل الشمس القوية ضيفا على النهارات الطويلة ضيقة الرزق، لا وقت لدينا للحب، فمن يحب قد يخطئ ومن يخطئ يكون مصيره رصاصة فى الرأس تخترق عمامته البيضاء، حروفنا قوية تخرج من أعماق الحناجر أو من تحت الصدر، لا بد أن تكون حروفنا شديدة اللهجة قوية الوقع على مسمع الجميع ليعرف أننا لا نهاب أو نتلجلج أو نخشى أحدا أو شيئا، فالفقر والحرارة وصلابة الأرض فرضت علينا طباعا قاسية مثل حياتنا الخالية من رفاهية التأمل والبطء والخيال، نرى أنفسنا أقوياء أشداء ونتعامل مع الجميع على هذا الأساس ولا نجد فى صدورنا ميلا للعفو أو التسامح، فهذه شيم الضعفاء التى لا تناسبنا إطلاقا. لذا فقد نقتل أحدهم لسبب تافه كأن يسخر من هيئتنا مثلا، أو من مستوانا الفكرى أو طريقة حديثنا.. نحن لا نحب المزاح أو الرعونة فى الكلام أو العفو .