ظللت لفترة أتسامح مع ما اعتبرته حينها رغبة ساذجة في مجاراتنا نحن أصدقاءه طلبة الثانويه العامة، وإثبات أنه يضاهينا في الثقافه والمعرفة رغم التحاقه بالتعليم الفني ومهنته اليدوية في البناء والعمارة
بمرور الوقت أيقنت أنه ضليع حقا في الأدب والتاريخ، وسرعان ماتحول التسامح إلي احترام ومحبة، وطالما أعجبتني آراءه السياسية والاجتماعية ومواقفه في الحياة والعلاقات الإنسانية. كان طويلا ووسيما ذا بشرة فاتحة وسحنة تشعرك بأنه ابنٌ من أبوين مختلفي الأجناس، أب إنجليزي -علي سبيل المثال -وأم مصرية
تباعدنا لسنوات طويلة بحكم انتقالي من القريه حيث ولدتُ إلى جامعة القاهرة للدراسة، بينما سافر هو لإحدي بلاد الخليج .
بالصدفه التقيته في جلسة من جلسات إنعاش الود واستحضار الذكريات بين بعض الأصدقاء القدامى بعد أن كنت قد سمعت شذرا عن محاولاته في الهجرة السرية .عبر البحر الي إيطاليا
**********
يقول قاسم أمين (من ذا الذي ينكر علي المصريين تقدمهم في الإحساس الوطني؟ عاش آباؤنا وتعلموا واشتغلوا في الصناعة والتجارة وخدموا أمتهم وفتحوا البلاد وحاربوا الأمم ولم نسمع عنهم انهم كانوا يعتبرون حب الوطن هو اتهام خصومهم بالخيانة . أما الآن فأيَّما قرأت وفي أي مكان وجدت لا أسمع إلا حب الوطن والغيرة الوطنية والتفاني في خدمة الوطن والجريدة الوطنية والمدرسة الوطنيه وحزب الوطن والبيوت التجارية والمحال الصناعية والصيدليات وعيادات المرضي التي تشتغل وتبيع وتعالج وتربح لخدمة الوطن،
صار حب الوطن دينًا جديدًا ، من اعتنقه ربح ومن بعد عنه خسر، صار كعصارة الطماطم يوضع في كل شيء ليجعل مذاقه حامضا !)
*******
تغيرت ملامحه وصار أكثر بهاءً، بدا لي بسترته الأنيقه ورائحة عطره الفرنسية كرجل يوناني من الذين كنتُ أقابلهم كثيرا وأنا أعمل في السياحة فيحكون لي عن آباءهم وجدودهم الذين ولدوا أو أثروا في مصر وعن عشقهم للإسكندرية.
كل مافيه كان لامعا ، حذاءه الإيطالي، بشرته، عيونه، شعره، واختفت من راحتيه خشونة الكفاح والعمل بالمسطرين والقروانه.
اختصني بحفاوه بالغة، وسرعان ما تدفق الحديث عن تقلبات البحر بين الهلع المزلزل وقشة الرجاء ،بين شاطئ المذلة وشاطئ النعيم
*********
يُفَاجَأ المتفرجون بأصوات عواصف رعدية شديدة بينما تنقطع الكهرباء ويحل ظلام حالك يشي بولادة عوالم جديدة من رحم الغيب ،بعد برهه قصيرة ينبلج النور و تقتحم ست شخصيات من أسره واحدة خشبة المسرح علي الممثل الأول، وتصر علي إقناعه بمنحها أدوارها المناسبة بعد أن عجز المؤلف الذي أنتجهم عن أن يصوغ دراما محبوكة تحتوي صراعاتهم وأقدارهم وتركهم في تيه العدم! يهتف المتفرجون في استياء هستيري بعد موافقة الممثل الاول (هو الممثل الرئيسي والمخرج في نفس الوقت )علي منحهم الأدوار وإتمام المسرحية .. (مجانين ،مجانين )،،علي الرغم من استقبال الليلة الأولي المخيب للآمال ، تحقق مسرحية الأديب الايطالي "لويجي بيرانديلو" (ست شخصيات تبحث عن مؤلف ) نجاحا مدويا في العروض التالية التي استمرت لعقود متواصلة وتصبح الفسيله الخصبة التي نمت عليها نهضة المسرح الأوروبي الحديث.
*********
حين وطئت قدماي تلك المدينة الشاطئية علي الساحل الليبي، استقبلتني برياح رملية وأجواء مكتومة عطنة رغم نقاء البحر الذي يحتضنها، بعد أن سلمنا أنفسنا وكل مانملك تقريبا من مال ومتاع إلي عصابة التهريب ، بتنا ليلتنا الأولي - أنا ورفقائي المصريين والسودانيين - في زنزانة قذرة ، ساقونا إليها بالركل والبصق وصنوف الشتائم والمعايرة بأ صلنا الوضيع. لحسن الحظ لم نمكث طويلا ،حشرونا علي مركب صغير في الليلة التالية ، فكرت :هل ستتوحد مصائرنا كما تلاصقت أجسادنا ونعبر الي جنة العدل والرخاء ؟ حمدنا الله أن شملنا البحر بعطفه بعيدا عن هؤلاء السفلة الجبابرة ، لكنه في لحظة انقلب مزاجه من الرفق الي الحدة وهاج علينا بأمواجه المفترسة بعد أن غربت الشمس ،انخلع قلبي حين مالت المركب ،برقت في ذهني لثانية واحده الآية القرآنية (وألقت مافيها وتخلت ) ،هل قرأت عن شيء في علوم الأعصاب والإدراك اسمه (ترافق الحواس )؟ أي حين تصاب حواسك بلوثه فجائية أو حين تعمل مناطق مجهوله في المخ فتري أشياء بأذنك وتسمع أشياء بعينيك ؟ لم أكن قادرًا حين سقطت في الماء علي التمييز بين وظيفة العيون ووظيفة الأذن ،كان قلبي يرتجف بشده وتحولت اطرافي الي جنود تعمل في فوضي تامة بعيدا عن سيطرة المخ .. كلمة خوف كلمه رقيقة وباهتة تماما وغارقة في التهوين إذا استدخمتها في وصف ماكنت فيه وأنا تحت الموج العاصف ، لقد كنت كنبيّ بعثه الله ثم أراد أن يختبر صبره ببطن حوت يونس وعلة أيوب وسجن يوسف في مأساةٍ واحدة .
ظللت أسبح طويلا طويلا كنجم مقذوف من اقصي الكون وحين رسوت علي شاطئ الجزيرة وتلقيت الإسعافات المناسبة.. قلت لنفسي: إني أولد من جديد، لقد التقطني سكان العالم الآخر وبدأ عمري الآن! بمجرد تسوية أوراقي وحصولي علي مسكن وعمل بمساعدة اصدقاء قدامى يعيشون هناك .
نسيت إهانات العصابة وضرباتهم القاسية علي قفايا ومؤخرتي ومعايرتي بجنيستي ورخص قيمتي ، فقد اعتدت علي مثل هذا النوع من الإهانات حين كنت أعمل كالعبيد تحت رحمة الكفيل السعودي ، ألقيت بنفسي إلي العمل وحصد المال بحماس لا ينضب . كنت أعمل ساعات طويلة في المحاره والنقاشة وتبليط الأرضيات ،بدأت سريعا دوره في تعلم الايطالية .. اندمجت مع البشر والثقافة في وقت قياسي. أول شيء فعلته مع صديقتي معلمة الايطالية بعد أن وافقت بسهولة علي دعوتي لها علي العشاء في غرفتي أن أجلستها الي منضدة وانحنيت امامها طالبا أن تسمح برقصة سلو علي موسيقى هادئة !
لقد ظللت سنوات ياصديقي أشاهد أفلام الأبيض والأسود واندهش من هؤلاء النساء اللاتي يستجيبن الي دعوات الرقص في سهرات الحانات بكل سهولة وبلا حياء وافتقد وجودهم في الواقع من حولي في القرية والمدينه وأينما وليت وجهي في المحروسة مصر ، وحين ذهب " ستيفان روستي " الي فردوس محمد يطلب منها السماح له برقصة فاستغربت طلبه وأفحمته ببرود معلنة أنها لا تمسك فيه لتمنعه الرقص ، فليرقص كيف يشاء بعيدا عنها ، فذهب ليتحزم ويعود ،أصبحت فردوس محمد منذ ذاك المشهد متمردتي الحنون الأصيلة ،وهتفت في داخلي (أخيرا سيدة مصرية لا تعلم شيئا عن الرقص " السلو "وتصون حياءها الفلاحي العتيد،تبا لكل الفاتنات اذا لم يستطع مثلي أن يراقصهن )؟
وأنا أتمايل مع السنيورة الايطالية همست في اذنها بأني (الآن ياساندرا ياجميلة الجميلات ، اقطف ثمرة شهيه طالما ظللت أتاملها فقط من بعيد وأتعجب من حسنها ، الآن في هذه اللحظة وأنا أرفرف بين نهديكِ بحرية ، فلتلتصقي بمسمام جسدي الحار يامعشوقتي الخالده ،لتنسيني كل الذين آذوني في وطن الآلام واستكبروا علي الحب الراسخ في قلبي ، ليلقوا في أسفل دركٍ بالجحيم بعد أن أدهسهم باقدامي ،الآن لتتعامد ألسنة النار الأفريقية علي فوهة الخلق الأول ،البئر الرطبة الضيقه المحفوره بأيدٍ عبقرية علي الجسد الوردي الناصع ، لتغزو روما يا سيفي الظمآن الي مخابئ العسل )،فتحت ساندرا شهيتي علي الحياة فادخرت مبلغا محترما من المال وأقبلت بنهمٍ علي المدينة الايطالية الساحره اللعوب ،كنت التهم كل شيء امامي ،الطعام والنساء والخمور والكتب والزهور والعطور والاكسسوارات ،اكتشفت في (نفسي الأخري) مواهب وهوايات لم اكن أتخيل يوما أن أجربها مابالك بأن اتقنها ، فعزفت علي البيانو ورسمت بالفحم وطفت حول موضع قدمي علي حلبة جليد واسعة مغمضا عينيَّ ذاهلا كراقص صوفي أفني ذاته في الملكوت الاكبر!
********
يقول قاسم أمين (ان المصريين – مسلمين وأقباطا- ينتمون الي جنس واحد ،والمصري لا يهاب الموت ولا الآلام ،غير انه يحتمل بعض الاهانات ،لأن السلطه أفقدته وعيهحتي ظن انه مخلوق لمعاتاة نزواتها !انه لا تنقصه القوه الجسديه ولا الطاقه المعنويه،ان مايحتاج اليه هو النهوض والتوجيه السليم ليصبح قوعه عظمي.)
**********
آتي الي هذه القرية البائسة في زيارات علي فترات متباعدة للاطمئنان علي أهلي ولأجدد رغبتي في الحياة الحقيقية والنشاط عند العودة بعد أن أحمد الله علي نعمة الغربة !
لأباهي بأموالي وسيارتي وأملاكي و أرشقهم في عيون المغتاظين الحقدة ، حذار أن تصيبك السذاجة المفرطة فتؤمن بشيء مبهم لا أصل له اسمه أخلاق القرية ،الناس هنا لا يحترمون و يعترفون إلا بشيئين :عائلتك الكبيرة أو ثروتك الغزيرة ، والباقي كله بالنسبة إليهم هراء ،لم أتعجب وأنا في ليلة (حنه)
بالأمس حين لاحظت استقبالهم بصخب ونفاق أحد
كبراء القرية وهم يعلمون انه كان تاجر عمله في الثمانينات ثم تحول الي الشعوذة والدجل وتعاطي المخدرات إلي اليوم، أو حين رأيتهم يستدينون لينفقوا علي أعراسهم وزيجاتهم بعشرات الآلاف في مواكب المنظرة الفارغة والزيف بينما يشتكون من الغلاء والعوز
! هنا في هذا الوطن ياصديقي تمارس الحياة بنصف قلب ،تتبدد طاقتك علي مصارعة الزحام والقبح والأهداف الصغيرة ،هل قرأت رواية (الجميلات النائمات ) للأديب الياباني ياسونا كاواباتا ؟ عن تلك المنزل الذي تؤجره صاحبته إلي العواجيز ليستلقوا في صمت بجوار فتيات صغار عرايا حتي تنتشي أحلامهم برحيق اللذة الغاربة في أرذل العمر ،لقد كانت تشترط عليهم التمدد فقط بجوار البنات النائمات ،ممنوع عليهم الاقتراب أو اللمس ، وكانوا رغم ذلك يتوهمون أنهم يستعيدون شبابهم!
لقد اقتربت أنا هناك ولمست وغرست بذوري ونقعت خلايايَ في أعماق الحياة عن صدق ،لقد تحولت هناك من (شخصيه تبحث عن دور لا يمنحه إياها أحد ) إلي إنسان له طريق وفخور بقيمته وعمله
تخلصت من طنين الشعارات الكاذبة عن الوطنية ووجوهها المستعارة ،هنا فقط يعيش الناس في فقاعات من الوهم أن الحرص علي الوطن يجب ان يَتبدّى في الأغاني وأسماء الأحزاب وصناديق الأموال وبرامج الثرثره الفارغه ويتناسون أجيال جديدة شابة تعلن يوميا وبلا أي شعور بالذنب عن الكفر بالوطن والرغبه في الهجرة من أوحاله ولو إلي جحيم العذاب في دوامات البحر المجنونة