السينما مجال إبداعي لا تحكمه قوانين المنطق فقط يخضع لخيال ورؤية معينة يقدمها صناع السينما ويقبل عليه الجمهور كل حسب رغبته، وحاولت السينما تقديم تاريخ الأمم بالرجوع للمختصين والمراجع وغيرها من المصادر لتوثيق اللحظات حسب رغبة صناع الأفلام ولكنهم وقعوا في أخطاء ربما عمدا وربما عن غير علم، ومهما كانت الأسباب إلا أن النتيجة تقديم أفلام خانتها ذاكرة السينما بما فيها من أخطاء تاريخية تعكس واقع مزيف لا علاقة بينه وبين الحقيقة.
الخطأ الأول: الشيماءظهرت الشيماء في الفيلم الشهير على أنها الأخت الشقيقة لرسول الإسلام والإنسانية محمد صلوات الله عليه وسلامه، وأظهرتها بعض الأفلام السينمائية على هذا الوصف في حين أنها ابنة حليمة السعدية مرضعة الرسول الكريم وكانت الشيماء لهذا أخته في الرضاعة فقط.
وتحكي المراجع التاريخية أن الرسول الكريم كان يصاحب أبناء حليمة منذ الصغر ولكن كانت الشيماء تراعيه وتحميه من أي شئ، وكانت أيضا تحمله حين يتعب من السير وتبعد عنه الشمس بإخفائه بين ذراعيها، ولم تكن الشيماء مغنية أو مطربة ولم تشدو يوما بصوتها في مجالس الرجال بل كانت تجيد إلقاء الشعر وتحفظ منه أبياتا كثيرة.
الخطأ الثاني: سادة قريش وأهلهاصورت كثير من الأعمال السينمائية ما بين مصري وعربي الإنتاج، أهل قبيلة قريش وسادتها على أنهم دائبون على تناول الخمور، يهتمون بقضاء الليالي الحمراء ولا يهتمون بنظافتهم حتى اشتهروا بالرائحة الكريهة والهيئة المنفرة.
والحقيقة أن قريش كانت من أكثر القبائل قوة ومالا وكرما وكانت تمتلك أكبر قوافل التجارة في الجزيرة العربية، وكانوا يجلبون أطيب وأغلى العطور مع تجارتهم واشتهروا بالبيوت الواسعة والكرم والموائد الضخمة التي تطعم كل فقير ومسكين ومحتاج وعابر سبيل.كما اشتهر سادتها بالحكمة والتدبر في الشئون، فمثلا نجد شخصية أبي لهب التي اشتهرت في كثير من الأفلام شخصية تتسم بالغلظة وقوة البأس والمظهر غير المقبول وقبح الطلعة، وإنما لقبه والده بهذا اللقب لوسامته ووجهه المشرق، وهو من أعتق جاريته التي أتته ببشرى ميلاد محمد نجل شقيقه، وعدائه فيما بعد لدين الإسلام يعود إلى خشية ضياع هيبة قريش بين القبائل، وليس عداء لشخص الرسول صلى الله عليه وسلم.
الخطأ الثالث: هارون الرشيدالخليفة العباسي الخامس ويعتبر من أشهر خلفاء الدولة العباسية، عرف عنه بحسب المراجع التاريخية والمصادر أنه خليفة يميل للأشياء الروحانية ويتميز بالتقوى والورع والتدين المعتدل، ومع هذا صورته الأعمال السينمائية وكأنه لا يهتم إلا بالحفلات والغناء ومجالس اللهو والمرح، بل صورته بعضها كعاشق للرقص وراعيا له.
والحقيقة أن هارون الرشيد من أكثر خلفاء الدولة العباسية اللذين تم ذكرهم بالعقل والورع في الحوليات والمراجع الألمانية والصينية وكذلك الهندية، ويوصف بأنه كان رقيق القلب حين تذكر المواعظ والقصص الدينية العميقة الأهداف، كما أنه كان محاربا ومحبا لزيارة بيت الله فكان يحج عاما ويخرج للحرب والفتح العام التالي، كما كان يصلي في اليوم مائة ركعة ويخرج بنفسه لقيادة الجيوش في الفتوحات، وكان يزرع بين الناس جواسيس ليستطلع رأيهم فيه ويعرف شكواهم ومشكلاتهم عن قرب ليحلها، بل كان يتخفى بنفسه أحيانا وينزل بين الناس ليسمع ما يقال عنه وعن حكمه، وتعد فترة حكمه من أفضل الأوقات التي مرت على الدولة حتى لقب عصره بالذهبي.
الخطأ الرابع: عيسى العوامشاهد جمهور عريض هذه الشخصية في فيلم الناصر صلاح الدين الشهير الذي نال شهرة وتشجيع عالمي، ويفترض أن شخصية عيسى العوام تعتنق المسيحية ويقع أثناء الأحداث في غرام إحدى خادمات العرش الصليبي ويتزوج منها.
والحقيقة أن عيسى العوام لم يكن مسيحيا بل كان عربيا مسلما يعمل بمهنة الغوص ويجيدها، وتم ضمه لصفوف المحاربين ضد الصليبيين بعد دخوله عكا وخروجه منها أثناء الحصار حاملا الكتب والدنانير، وذكر بهاء الدين بن شداد صاحب كتاب النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية أن عيسى العوام أخذ لقبه من مهارته في العوم والغوص، وكان يدخل ويخرج أثناء محاصرة الفرنجة لعكا ليعطي المال للمجاهدين هناك ويراسلهم من الحاكم وقائد الجيوش، ويُحكى أنه هلك أثناء رحلاته المتكررة في نهاية شهر رجب.
الخطأ الخامس: قراقوشخلدت الأعمال الفنية هذه الشخصية كواحد من أكثر الحكام ظلما وقسوة، وقيل أنه كان يتصف بالغباء وحب النفس والأنانية، لا يستمع إلا لجواريه ويعشق الدماء ويتفنن في تعذيب الناس.
والحقيقة أن بهاء الدين قراقوش كان خادما للقائد العظيم صلاح الدين الأيوبي، وحين استقل صلاح الدين بحكم مصر جعل لقراقوش زمام القصر ثم جعله نائبا عنه عند سفره خارج البلاد، وتصفه المراجع التاريخية بأنه كان صاحب نشاط وحماس وقيل أن الحظ الحسن يصاحبه وبنى سور يحيط بالقاهرة وبنى القناطر في الجيزة، وظل في خدمة صلاح الدين الأيوبي لا يؤخر له طلبا مخلصا له لا يتخذ قرارا إلا بعد استشارته، وكان من المهتمين بالعمارة والتعمير والعمران، ويوصف بالشجاعة في الحروب، ولم يكن يوما طاغية وإلا ابعده صلاح الدين لكنه ظل موضع ثقته لاكثر من 30 عاما.