تفكك منظومة العولمة، ليس بالسهولة التي قد يتخيلها البعض، إن الصين تهيئ نفسها لقيادة هذه المنظومة بدلا من الولايات المتحدة".. "تصريح عابر، ولكنه تصريح ليس عاديا بالمرة في حسابات العلاقات الدولية ومتغيراتها المؤثرة، وربما لم يلفت انتباه غالبية المراقبين والمتخصصين، ولكنه لا يجب أن يمر مرور الكرام، فوسط الضجيج والنقاشات العالمية عالية الصوت حول الآثار الاستراتيجية المرتقبة لتولي الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب السلطة، خرج مسؤول صيني رفيع هو تشانج جون رئيس القسم الاقتصادي الدولي في وزارة الخارجية الصينية، ليعلن أن الصين لا تسعى إلى قيادة العالم، لكنها قد تجبر على تبني هذا الدور إذا تراجع الآخرون."
وهذا التصريح، كما ذكر تقرير بثه موقع (ميدل ايست) هو أول موقف صيني في التاريخ يتحدث عن إمكانية قبول الصين بقيادة النظام العالمي، وهذا الموقف جاء كردة فعل على تعهد الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بوضع "أميركا أولا" في أول خطاب له بعد تنصيبه."
وفي تفاصيل حديث تشانغ جون رئيس القسم الاقتصادي الدولي في وزارة الخارجية الصينية عن فكرة القيادة قال إن بكين ليست لديها نية في السعي للقيادة، وقال نصا "لو قال أي شخص إن الصين تلعب دورا قياديا عالميا في العالم، فإنني أقول إن الصين لا تندفع إلى تصدر المقدمة، لكن متصدري السباق تراجعوا، تاركين المكان للصين"، وهي فكرة فلسفية نوعا ما ولكنها تصل بنا إلى النتيجة ذاتها، وهي أن الصين تتجه نحو قيادة العالم سواء برغبة منها أو كمحصلة لتخلي آخرين، ويقصد بهم الولايات المتحدة تحديدا، عن مقعد القيادة."
وهناك حسب ماذكره التقرير، إشارات عدة صدرت من الصين في الآونة الأخيرة حول نظرتها للعالم، وآخرها حديث الرئيس الصيني شي جين بينج في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس مؤخرًا عن بلاده باعتبارها "زعيمة عالم العولمة" معتبرًا أنه عالم لا تحل فيه المشكلات سوى من خلال التعاون الدولي. وقد ألمح الرئيس الصيني ضمنًا أيضًا خلال هذا الحديث إلى فكرة القيادة حين أشار إلى رغبة بلاده في لعب دور دولي أكبر، رافضًا فكرة الانعزالية، وحث الرئيس الأميركي الجديد ترامب على التخلي عنها.
والمؤكد أن ظهور فكرة القيادة الصينية للعالم، بغض النظر عن ملابساتها، تعني بالضرورة أن هناك استعداد جاد في الصين لهكذا خطوة، فحساسية الصين للقيادة يعرفها جيدًا خبراء العلاقات الدولية، ومن ثم، فإن التسليم بها والتعامل معها كحقيقة يعني أن هناك تفكير استراتيجي متقدم في كيفية تنفيذها، بدليل أن المسؤول الصيني أكد أنه "إذا أرادت الصين لعب هذا الدور القيادي فستتحمل مسؤولياتها"، ما يعني أن هناك بالفعل دراسة للتبعات وحدود المسؤولية الدولية المترتبة على قيادة النظام العالمي. فالصين ليست بلدًا مغامرًا ولا طائشًا، بل تمتلك مخزون هائل من الخبرات التاريخية وكذلك الحساسيات، وليس من السهولة ان تقول بأنها ستتحمل مسؤولية القيادة من دون وعي استراتيجي كاف بالتبعات والعواقب المحتملة لذلك.
ومبدئيًا، ليس من المفاجئ الحديث عن قيادة صينية للعالم، فالخبراء يدركون أنها كانت مسألة وقت، فضلًا عن ارتباطها القوي بمدى رغبة الصين ذاتها في الجلوس على مقعد القيادة، وهي فكرة لها أبعاد وجذور عميقة في التاريخ الصيني.
والصين مشغولة طيلة العقود الماضية ببناء قدراتها الذاتية ولا تستعجل الوصول للقيادة، بل كانت تحرص حتى وقت قريب على تصنيف نفسها في منظمة التجارة العالمية ضمن الاقتصادات النامية، ولا تريد أن يستعجلها الآخرون أو تُدفع او تُستقطب للقيادة في توقيت غير ملائم لحساباتها الاستراتيجية، ولكنها عندما تقول أنها "مستعدة" فهذا يعني أنها تجاوزت مرحلة الحذر وارتقت إلى الجاهزية الاستراتيجية لتبوأ مقعد القيادة.
والصين أيضًا هي ثاني أكبر اقتصاد عالمي، وتدرك أن ترامب يتجه نحو تقليص مساحة صفقات التعهيد ويفرض قدر كبير من الحمائية التجارية والصناعية في الولايات المتحدة، ولكنها على ثقة بأن هناك فرص محدودة لنجاح هذه المحاولات بعد أن أدخلت الصين اقتصادات العالم كافة فيما يشبه مرحلة "الإدمان"، ادمان السلع الرخيصة والعمالة الرخيصة وغير ذلك من حسابات اقتصادية وتجارية تجعل من الصعب منافسة الصين!
ويبدو أن الصين تري أنه لا بد من التكشير الآن عن أنيابها، ولو قليلًا، في مواجهة سياسات الرئيس ترامب، الذي يتبنى سياسة صدامية إلى حد كبير تجاه الصين، لاسيما بعد أن اخترق ما يشبه "التابوهات" بالنسبة لبكين، وأجرى حديثًا هاتفيًا مباشرًا مع رئيسة تايوان، وكانت مكالمة ترامب مع الرئيسة التايوانية المرة الأولى من نوعها التي يتحدث فيها رئيس أميركي إلى آخر تايواني منذ تدهورت العلاقات في عام 1979.
ورغم أن البيت الأبيض قد حاول التخفيف من وقع هذه المكالمة، بالقول إنها لا تعتبر دليلا على تغير في الموقف السياسي الأميركي من "الصين الموحدة"، والذي يعتبر تايوان جزءا من الصين، وذهب نائب الرئيس المنتخب، مايك بينس، إلى حد وصف ما حدث عقب المكالمة بأنه "عاصفة في فنجان".
مضيفًا "أقول لأقراننا في الصين إن هذه كانت لحظة مجاملة"، ولكن الصين تتعامل مع تايوان باعتبارها مسألة "هزلها جد"، وهي تعرف أن الرئيس الجديد رجل أعمال يعرف كيف ينطق الكلمات وكيف يتصرف وفق منطق الربح والخسارة، وبالتالي هو يقيس خطواته جيدًا ويدرك عواقبها، وليس هناك مجال لمجاملات في لحظات الانطلاقة الأولى لرئاسته!.
سياسة الاعتراف بموقف الصين حيال تايوان لا تعد حجر الزاوية في العلاقات الصينية الأميركية فحسب، بل تعد أيضا القاعدة الاساسية للسياسة والدبلوماسية بالنسبة للصين في علاقاتها مع العالم، ومن هنا فإن ترامب قد اخترق محظورًا صينيًا بمكالمته تلك.
هي إذا مباراة ساخنة في الدبلوماسية بين إدارة ترامب والجانب الصيني، الذي يعتبر أكبر دائني الولايات المتحدة وشركائها التجاريين، والأمر يتوقف على كيفية حفاظ البيت الأبيض على نقطة التوازن التي ظلت قائمة منذ عام 1979 بين القوتين الكبيرتين، ولكن الشواهد تؤكد أن الصين تفكر جديًا، إن لم تكن قد قررت بالفعل، الجلوس على مقعد قيادة النظام العالمي في حال تكرس نهج الانعزالية في السياسة الخارجية الأميركية.
وتفكك منظومة العولمة، ليس بالسهولة التي قد يتخيلها البعض، ولكن لو أدركنا أن الصين تهيئ نفسها لقيادة هذه المنظومة بدلًا من الولايات المتحدة، فليس هناك سوى أن نستعد لقرن صيني، ما لم يتخل السيد الجديد للبيت الأبيض عن انعزاليته.