عندما غادر ياسين صافي حيه في مدينة حلب قبل أربع سنوات كان يساوره الأمل في أن يستطيع العودة لمنزله في الحي بعد بضعة أيام فقط.
ولكن هذه الأيام تحولت إلى أسابيع وتحولت الأسابيع إلى أشهر.
ثم اقتضى الأمر مرور أربع سنوات حتى تستطيع قدما صافي أن تطأ حيه في شرق مدينة حلب الواقعة شمال سورية مرة أخرى، ولكنه لم يستطع تقريبا التعرف على الحي مرة ثانية.
حي الشعار، كان هذه الحي كثيف المباني وبه حركة مرورية كثيرة وأسواق مزدحمة.
ولكن ما رآه ياسين صافي عند عودته كان شيئا مختلفا تماما، لقد أصبح الحي اليوم أرضا من الأنقاض والتراب.
مرت ست سنوات على اندلاع الثورة السورية في 15 من مارس عام 2011 عندما خرج المئات من السوريين في احتجاجات في شوارع العاصمة دمشق.
ومنذ ذلك الحين قتل نحو 400 ألف شخص في الحرب الأهلية في سورية.
وتعتبر مدينة حلب أكثر من أي مدينة سورية أخرى تقريبا رمزا للمعاناة التي شهدتها سورية.
في عام 2012 سيطر خصوم الرئيس بشار الأسد على شرق هذه الحاضرة التجارية الكبيرة ومنذ ذلك الحين كانت المدينة منقسمة وكانت هناك معارك ضارية بين المعارضة المسلحة وقوات النظام السوري من أجل السيطرة عليها.
وخاضت الأطراف المتحاربة على مدى سنوات مواجهات أدت لإنهاك المدينة.
وكانت هناك أوقات تعرضت فيها المدينة للقصف الجوي بشكل شبه يومي وألقت طائرات النظام براميل متفجرة على المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة المسلحة.
توفي آلاف الناس إلى أن استطاع الجيش السوري وحلفاؤه من المليشيات الأجنبية الاستيلاء على شرق حلب في ديسمبر الماضي ثم إخلاء آخر معاقل المعارضة المسلحة.
كان هذا النصر بمثابة نقطة تحول في الحرب الأهلية.
فرغم أن المعارضة المسلحة لا تزال تسيطر على العديد من المناطق إلا أنها لم تستطع الاستفاقة من أثر هذه الضربة في حين أن القوى المؤيدة للأسد أصبحت تسيطر مرة أخرى على جميع المدن السورية الكبيرة.
وأصبح حاكم سورية مستقرا في كرسي حكمه رغم أنه كان يبدو قبل سنوات أن نهايته قد حانت.
ورغم ذلك فإن هذه الحرب لا تعرف سوى خاسرين تقريبا.
يضاف إلى هؤلاء الخاسرين ليس فقط خصوم الحكومة السورية بل مؤيدو النظام أيضا.
ربما أصبح باستطاعة هؤلاء الخصوم السيطرة مرة أخرى على شرق حلب ولكن لم يعد هناك شيء تقريبا من البريق السابق للمدينة حيث دمرت أجزاء كبيرة من المدينة القديمة وسط حلب؛ بما في ذلك القلعة الشهيرة عالميا والمسجد الأموي الذي يعد ضمن قائمة التراث الثقافي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "اليونسكو".
فرغم مرور أسابيع على النصر الذي حققته القوات الحكومية إلا أن الصورة الحالية للمدينة لا توحي من قريب أو بعيد بعودة الحياة إلى طبيعتها في المدينة خاصة في مناطق شرق حلب.
وفقا لتقديرات الأمم المتحدة فإن نحو 3ر1 مليون شخص يعيشون في حلب المدمرة من بينهم 400 ألف نازح.
لم يعد هناك من الناحية الفعلية تيار في شبكات كهرباء حلب، كما لم تعد هناك مياه في شبكة مياهها وذلك لأن تنظيم "داعش" كان يسيطر حتى وقت قريب على محطة مهمة لضخ المياه شرق حلب "لذلك فإن كل شخص هنا يعتمد على خزان مياه ومولد كهرباء خاص به" حسبما أوضح ياسين صافي.
تحمل سيارات النقل المياه يوميا للمدينة.
لم يكن باستطاعة هؤلاء النازحين الكُثر الاستمرار في الحياة حتى الآن إلا بفضل الوجبات اليومية التي تمدهم بها منظمات إغاثية يوميا.
يعيش نحو 80 ألف إنسان الآن وفقا للصليب الأحمر الدولي في أنقاض شرق حلب التي كانت من قبل وطنا لأكثر من مليون سوري.
وترى إنجي صدقي، المتحدثة باسم الصليب الأحمر الدولي، أن "محنة هؤلاء العائدين لم تنته بعد"، وقالت إن بعض الأسر تبيت في المباني التي أحرقتها القنابل "وهو ما يعرضها ويعرض أطفالها لخطر كبير".
وليست هناك مخابز أو مستشفيات في شرق حلب.
بدأت الحكومة السورية في إزالة الأنقاض.
ومشيرا لذلك قال وزير الأشغال العامة في الحكومة السورية حسين عرنوس إن الحكومة حققت الكثير في هذا الاتجاه منذ استعادة الجيش مناطق شرق حلب.
ورغم ذلك فمن الصعب على سورية الدفع بأعمال إزالة الأنقاض ومخلفات الحرب، وذلك في ظل الإنهاك الذي تعرضت له سورية والاستنزاف الذي طال مقدراتها بعد ست سنوات من الحرب.
ويبدو أن سورية لا تتلقى مساعدات خارجية من أجل عملية إعادة الإعمار "فلم نتلق مساعدة من أي جهة مانحة"، حسبما أكد رئيس مجلس مدينة حلب، أيمن حلاق مضيفا: "كل ما تلقيناه جاء من الحكومة".
ربما استمرت أعمال إزالة الأنقاض وآثار الحرب سنوات وذلك لأسباب منها أن هناك أخطار تتربص تحت الأنقاض حيث يزعم ممثلو الحكومة أن "الإرهابيين" زرعوا عبوات مفخخة في حلب قبل انسحابهم منها في حين أنه قد جاء في تقرير نشرته الأمم المتحدة مؤخرا أن الذخيرة العنقودية التي استخدمها النظام السوري وحليفته روسيا خلفت الكثير من القنابل التي تنتظر الانفجار.
تزداد معاناة الأطفال في سورية سوءا حيث هناك جيل ينشأ في كثير من أنحاء سورية لم يتلق تعليما منذ سنوات لأن المدارس في شطري حلب تعرضت للقصف.
البيانات التي ذكرتها منظمة الأمم المتحدة للطفولة "اليونيسف" في سورية مرعبة. وفقا لهذه البيانات فإن أكثر من 650 طفل قتلوا عام 2016 في الحرب الأهلية. ويعيش 8ر2 مليون قاصر على الأقل في مناطق يصعب الوصول إليها.
ويعتمد ستة ملايين شخص في سورية على المساعدات الإنسانية.
ويؤكد جيرت كابيلير، المدير الإقليمي لليونيسف" أن "حجم المعاناة غير مسبوق".
ورغم أن الأسد قد وطد حكمه إلا أن مصيره أصبح مرهونا منذ زمن بعيد بشركائه الروس والإيرانيين الذين يمتلكون نفوذا هائلا في سورية. ولا يمكن للجيش السوري كسب أي معركة تقريبا بدون الدعم الجوي الذي تقدمه له موسكو وبدون المليشيات التي تمولها طهران.
وهناك شكوك بشأن السلطة التي لا يزال بشار الأسد يتمتع بها في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة خارج العاصمة دمشق.
على أية حال فإنه لم يزر حلب حتى الآن.