منذ دخوله مشيخة الأزهر على رأس المؤسسة الدينية السنية الأكبر في العالم، يواجه الإمام أحمد الطيب حربًا ضروسًا، تارة في الخفاء، وتارات تدار ضده في العلن، لكن لم تكن بمثل شراستها في الفترة الأخيرة، خاصة مع انتشار التطرف، وحوادث الكراهية الدينية في مصر والعالم الإسلامي، وظهور أيديولوجيات ادعت القتل باسم الإسلام، ما تطلب إصلاحًا وتجديدًا للخطاب الديني، المنوط بالأزهر، وفي مقدمته "الطيب"، مسؤولية تلك المهمة، لكن الأخير أقر بأهمبة «فلترة» النصوص والتفسيرات والاجتهادات التي تحرض على العنف، لكن في الوقت نفسه رفض الاقتراب من أشياء وأطروحات اعتبرها شيخ الإسلام من الثوابت الدينية التي يستحيل الاقتراب منها بالتعديل أو الحذف، وهنا ثارت الدنيا ولم تهدأ ضد شيخ الأزهر، الذي استقبل صدره رماح الهجوم من كل حدب وصوب، لكن "الإمام" ظل ثابتًا كنصب تذكاري، بل دخل في معارك أخرى منها "الطلاق الشفهي"، و"تكفير داعش"، و"الخطبة الموحدة"، وكانت آخر حروبه آراءه حول «كرامة الأولياء»، ليفتح جبهة عريضة من المواجهة مع معارضي المد الصوفي.
غزوة الصوفية
«كرامة الأولياء» كانت الشرارة الأخيرة التي هوجم فيها شيخ الأزهر، وكشفت عن التحالفات ضده.. انقلب السحر على الساحر، ومن له الفضل عليهم انقلبوا عليه، بل إن "كرامة الأولياء" كشفت عن توغل السلفيين داخل المؤسسة الدينية، حتى أنها وصلت وكيلهم "عباس شومان" .
فمنذ أيام هاجم وكيل الأزهر إقامة الأضرحة والاحتفال بالأولياء، وآراء شيخ الأزهر بشأن كرامة الأولياء، وكان في باطن الأمر وحقيقته هو الهجوم على الأزهر وشيخه أحمد الطيب، لينضم إلى سلسلة من الصراع الطويل بين المؤسسة الدينية والسلطة والأزهر ووزارة الأوقاف.
على الرغم من أن الهجوم على الأزهركان من المؤيدين للسلطة في وسائل الإعلام والبرلمان والأوقاف، وكل مرة تتم فيها مهاجمة الطيب والأزهر لا يكون موقف الأخير إلا الصمت، حتى في هجوم "شومان" الذي لم يضع في الحسبان نار "المارد الصوفي" الذي انتظر الأزهر أيامًا للرد على وكيله، فقرر خوض الصدام بنفسه، تحت مبرر شيخ الأزهر يتم الهجوم عليه من جوانب كثيرة، ومسؤولياته المتعددة، ومشاغله تمنعه عن الخوض في صراعات أخرى جديدة وجانبية، وهم بدلًا منه سيصدون أي اعتداء عليه، وسيكونون عونًا له، معتبرين أن انقلاب "شومان" على شيخه خروج على الإمام، وإنكار لفضله ومكانته.
وهنا يطرح السؤال ذاته: هل فكر "شومان" السلفي جعله يشن هذا الهجوم في مسألة «كرامة الأولياء»، دون أن يلتفت إلى أنه يهاجم شيخ الأزهر، باعتبار "الطيب" حفيدًا لأحد الأولياء، والذي يعتبر ضريحه في الصعيد من أشهر الأضرحة وقبلة لعشرات الأشخاص يوميًا؟
رد مصطفى زايد، منسق الطرق الصوفية، على ما اعتبره هجومًا من قبل الدكتور عباس شومان على "الأولياء"، قائلًا: "بعد نشر قامة من قامات الأزهر العريق، وهو الدكتور عباس شومان، على حسابه الخاص بموقع التواصل "فيس بوك" بخصوص الأولياء وجب علينا الرد".
وقال "زايد" في تصريحات خاصة لـ"أهل مصر": "كنا نظن أن شومان سوف يكون رده على ما بدر من أفعال بعض الأشخاص بأسانيد شرعية، نظرًا لكونه أحد العلماء الكبار، ووكيل المؤسسة الدينية الكبرى في مصر، لكن نجد رده لا يختلف عن كثير ممن سبقوه وتحدثوا في هذا الموضوع من عامة، ومن جماعات دينية متطرفة لا حيلة لهم إلا الاستهزاء والرمي بالباطل".
وأضاف زايد: "نحن نعترف بأن هناك من الأخطاء التي ارتكبت من البعض بخصوص هذا الشأن، وفيها من المبالغة التي لا ننكرها، ولكن لا يرد هؤلاء الأشخاص بمنشور عبر«الفيس بوك»، ولدى فضيلته من السبل الكثيرة التي تصحح من أخطاء الأفراد والجماعات، وإرشادهم إلى الطريق الصحيح بالمناقشة لا بالاستهزاء".
وتابع منسق الصوفية: «أنكر شومان على الأولياء الكرامة، وهي أصل من أصول أهل السنة، والتي لا ينكرها إلا جاهل، فيكفي أن ابن تيمية قال في العقيدة الواسطية: ومن أصول أهل السنة التصديق بكرامات الأولياء، وما يجري الله على أيديهم من خوارق العادات في أنواع العلوم والمكاشفات وأنواع القدرة والتأثيرات، كالمأثور عن سالف الأمم في سورة الكهف وغيرها، وعن صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين، وسائر قرون الأمة، وهي موجودة فيها إلى يوم القيامة».
من جانبه استنكر حمدي الشيباني، منسق عام الطرق الصوفية بالإسكندرية، وصف الدكتور عباس شومان، وكيل الأزهر؛ طواف بعض مستخدمي الزمر والطبل عند تشييع جثمان أحد أقاربهم تحت دعوى أنه من كبار الصالحين بـ"هوس الأولياء"؛ وتأكيده بأن مثل هذه الأفعال "عبث لا أصل له في الدين".
وقال "الشيباني" في تصريح لـ«أهل مصر»: "كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبًا، وهذا هو ردنا عليه، وعار وأي عار أن ينتسب مثله للمؤسسة الدينية في مصر"، على حد تعبيره، متابعًا: " كيف لم يمر هذا الكلام على عقلك قبل أن ينطق به لسانك؟، هل هذا هو نهج الأزهر الآن؟، إننا نبرأ بالأزهر الشريف وعلى رأسه قمة من قمم التصوف أن يكون مثلك ممن ينتسبون إليه".
ودعا "الشيباني" وكيل الأزهر قائلا:"أيها الشيخ الفاضل، عد إلى رشدك وراجع نفسك فقد سلكت طريقًا ما سلكه أحد قبلك إلا وسلب علمه وهوى قدره".
لكن هذا الرد لم يكن كافيًا بل انتظر الصوفيون ردًا من مجلة "التصوف الإسلامي" الناطقة باسم الصوفية، بأن تفرد المجلة مساحات لنشر المنهج الصوفي الصحيح، وترد على الهجمة الشرسة عليهم وعلى اتهامات عباس شومان بـ"هوس الأولياء".
انقلاب "جمعة"
ثمة صراعات أخرى تدور في أروقة وزارة الأوقاف بين وزيرها الدكتور محمد مختار جمعة، وشيخ الأزهر، فالأول منذ توليه منصبه لا يترك أي حدث ديني إلا وقد خرج معلقًا عليه، في محاولة للتقرب من القيادة السياسية، حتى لو لم يكن الأمر متعلقًا بوزارته، على الرغم من أن الدكتور الطيب هو من رشح "جمعة" لمنصب وزير الأوقاف، إلَّا أن الوزير انقلب على أستاذه حين أصبح يمتلك السلطة، ويتحدث باسم الدولة، لعل أبرزها حينما تحدى وزير الأوقاف شيخ الأزهر في قضية الخطبة الموحدة.
في 17 يوليو 2013، تم تعيين الدكتور محمد مختار جمعة وزيرًا الأوقاف، بتوصية من الدكتور أحمد الطيب، وقبل أن يُظهر "جمعة" عداوته لشيخه عيّنه الأمام الطيب عضوًا في مكتبه الفني، بعد أن كان عميدًا لكلية الدراسات الإسلامية.
وفور تولي "جمعة" وزارة الأوقاف، استبعد كل المنتمين لجماعة الإخوان من المساجد وجامعة الأزهر، وأخذ يقدم نفسه على أنه الإمام القادم لمشيخة الأزهر، ففطن أحمد الطيب لتلك المحاولات ووقف ضد تعيين "جمعة" رئيسًا لجامعة الأزهر، كما استبعده من عضوية مكتبه الفني في بداية عام 2015.
لكن "جمعة" رد الضربة لشيخ الأزهر في العام نفسه، حينما عزل الدكتور عباس شومان من رئاسة مجلس إدارة مسجد الحسين، وكان "شومان" هو رئيس المكتب الفني لشيخ الأزهر الذي عُزل منه "جمعة"، بعدها خاض وزير الأوقاف حربًا ضروسًا ضد شيخ الأزهر، واتهمه بدعم "أخونة المشيخة" وتقريب مستشارين له ينتمون للجماعة الإرهابية، في مقدمتهم الدكتور حسن الشافعي، ومحمد عمارة.
فتنة "برهامي"
وفي تلك الأثناء استضاف شيخ الأزهر قيادات من حزب النور السلفي، مما جعل وزير الأوقاف يمنع صعود السلفيين غير الأزهريين على منابر المساجد، ومنعهم من الخطابة، لكنه وافق في النهاية بعد ضغوط على منح نائب رئيس الدعوة السلفية ياسر برهامي، ورئيس حزب النور، يونس مخيون، تصاريح للخطابة، وفي أواخر 2015 غاب شيخ الأزهر عن مؤتمر الأوقاف العالمي، وتعلل بمرضه وسفره إلى مسقط رأسه في الأقصر، كما غاب عن حضور المؤتمر الدولي الـ24 للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية للسبب ذاته، على خلاف العُرف المتبع، وقتها اجتمع بهم رئيس الوزراء إبراهيم محلب وحاول الصلح بين الطرفين، وانتهى اللقاء بتقبيل "جمعة" يد شيخ الأزهر.
واستمر الصراع حينما استبعد وزير الأوقاف الدكتور محمد مهنا، مستشار شيخ الأزهر، والدكتور عباس شومان، وعلماء آخرين، من لجان المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، وعيَّن علماء آخرين موالين له، مما جعل الطيب يعلن اعتذار هيئة كبار العلماء عن عدم المشاركة في عمل هذه اللجان.
ويأتي اللقاء الأخير بين الرئيس السيسي وشيخ الأزهر، على خلفية تفاقم الأزمة مجددًا بين الأزهر والأوقاف، إثر قيام "هيئة كبار العلماء" التابعة للأزهر، بالإجماع، في اجتماعها بالاعتذار عن عدم المشاركة في لجان "المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية" التابعة للثانية، معللة الانسحاب بضيق الوقت وكثرة الملفات الملقاة على عاتق هيئة كبار العلماء، وبأنها لم يعد لديها وقت لملفات الوزارة.
وجاء قرار هيئة العلماء بالانسحاب من عضوية المجلس على خلفية الأزمة التي جرت، وقام فيها وزير الأوقاف، محمد مختار جمعة، بإقالة عدد كبير من قيادات الأزهر من المجلس، وعلى رأسهم وكيل الأزهر، عباس شومان، ومستشار شيخ الأزهر، محمد مهنا، وأستاذ الفقه المقارن، أحمد كريمة، وأستاذ الشريعة الإسلامية، سعد الدين الهلالي، بحجة أنهم مشغولون في بعض الأعمال الأخرى، وهذا يتعارض مع مصلحة المجلس.
وبرغم تعيين عدد آخر من علماء الأزهر ومجلس حكماء المسلمين، الذي يرأسه "الطيب" بدلًا منهم، فإن هذا الأمر لم يشفِ غليل "الطيب" الذي لم يرضَ عن استبعاد شخصيات تابعة له من المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، ومحسوبة عليه، فاتخذ قراره بالانسحاب، ورفض التراجع عنه.
من جهتها، أصدرت الرئاسة بيانًا، تعليقًا على لقاء "السيسي" و"الطيب"، قالت فيه "إن اللقاء شهد استعراضًا لما يقوم به الأزهر من جهود لتصويب الخطاب الديني، وتصحيح صورة الإسلام، وتنقيتها مما علق بها من أفكار مغلوطة"، مشيرًا إلى أن "الطيب" تناول موضوع "جلسات الحوار المجتمعي التي تنظمها مؤسسة الأزهر في جميع المحافظات".
لكن وكيل الأزهر، عباس شومان، ألمح إلى وجود خلاف بين "السيسي" و"الطيب"، والذي يبدو أن "السيسي" ينحاز فيه إلى الأوقاف، فدافع "شومان" في مداخلة هاتفية ببرنامج "صباح دريم" عن الأزهر، مؤكدًا أنه يعمل على المستويين الداخلى والخارجي، ويقوم بجهود كبيرة جدًا في مجال الدعوة في الخارج، وفق وصفه.
"الأزهري" في المواجهة
لم يتوقف الصراع مع شيخ الأزهر عند الأوقاف والسلفيين، بل امتد لمؤسسة الرئاسة، ودخل أسامة الأزهري، مستشار الرئيس للشؤون الدينية، على خط المواجهة، وهاجم شيخ الأزهر بضراوة، واتهمه بالوقوف "محلك سر" في مواجهة التيارات المتطرفة، وعدم تطوير الخطاب الديني.
وكتب "الأزهري" مقالًا بعنوان "أمر يدع اللبيب حائرًا"، وفيه قال: "الوطن يستنجد بالأزهر، ويلح عليه، ويطالبه، ويلمح ويصرح، ويستنهض ويشير، ويتألم ويستغيث، ويبقى الأزهر عند مستوى واحد من تسيير أموره وقوافله وجولاته وأجنحته في معرض الكتاب، دون القفز إلى مستوى الحساسية والجد والخطر الذي يحيط بالوطن".
ووجه "الأزهري" شيخ الأزهر وكل العاملين بالأزهر الشريف بضرورة العمل للأمام، والنهوض بالعمل الدعوى، وذكر: «على الأزهر أن ينهض إلى عمل يليق بالتاريخ المشرف، ويسعف الوطن والدين، ويسعف شعب مصر والأمة العربية والعالم في وقت حساس وخطير".
لم يتوقف هجوم مستشار الرئيس عند ذلك، بل تجرأ على الإمام الطيب، وقال له صراحة فيما يشبه التأنيب: «ما الذى تريده حتى تنهض ونحن جميعًا مسخّرون لخدمتك، هل هي الرؤى والخطط والاستراتيجيات فنوفرها، أو هي عراقيل إدارية وتشريعية فنذللها، أو هو تمويل وإنفاق فنعتصر أنفسنا ونجمعه أم ماذا؟».
وظهر الخلاف بين الجانبين كبيرًا وجليًا في ظهور "الأزهري" في عدة مناسبات مهمة، دون أن يُدعى لها الدكتور أحمد الطيب، ولفت البعض إلى أن الصراع بين الاثنين يسير في غير ما تشتهي سفن "الطيب".
نقلا عن العدد الورقي.