شارك الدكتور عباس شومان وكيل الأزهر في المؤتمر الدولي للوسطية والذي يعقد بماليزيا تحت عنوان: "فقه الولاء والطاعة ودوره في ترسيخ رخاء الوطن"، وألقي شومان الكلمة الافتتاحية للمؤتمر، والتي جاء نصها كالآتي:
"بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ
الحمدُ للهِ ربِّ العالَمينَ، والصلاةُ والسلامُ على سيِّدِنا محمدٍ، وعلى آلِهِ وصَحبِهِ أجمعينَ، وبعدُ:
ففي البدايةِ يَطيبُ لي أنْ أُعرِبَ عن سعادتي الغامرةِ بمُشاركتي في هذا الملتقى الفكريِّ الراقي، ويُسعدُني أنْ أَنقُلَ لحضراتِكم تحياتِ فضيلةِ الإمامِ الأكبرِ الدكتور أحمد الطيب شَيخِ الأزهرِ، وتمنياتِهِ بتحقيقِ الأهدافِ المنشودةِ مِن وراءِ هذا المؤتمرِ الموقَّرِ. وسوفَ تَدورُ كلمتي هذه حولَ: «العَلاقةُ بينَ الحاكمِ والمحكومِ: حقوقٌ وواجباتٌ».
الحضورُ الكريمُ:
لقدِ ابتُلِيَتِ المجتمَعاتُ المسلِمةُ في الواقعِ المشهودِ بدَعَواتٍ تَظهَرُ بين الفَيْنةِ والأخرى تُنادِي بالخُروجِ على الحاكِمِ، وتُزيِّنُ للعامَّةِ استباحةَ نَزْعِ اليدِ مِن طاعةِ وليِّ الأمرِ. وقد شغلَتْ هذه الدَّعَواتُ حيِّزًا مِن تفكيرِ كثيرٍ مِنَ الناشِئةِ والشبابِ في مجتمعاتِنا المعاصرةِ، وحاوَلَ بعضُهم أن يَفهَمَ هذه المسألةَ وغيرَها منَ المسائلِ العِظامِ بمَنْأًى عنِ التأصيلِ العِلْميِّ الصحيحِ الذي أرساهُ الأئمةُ الفقهاءُ الثِّقاتُ رَحِمَهُمُ اللهُ تعالى. وإزاءَ الفوضَى العِلميةِ التي تَشهَدُها حياتُنا الفكريةُ والأدبيةُ والاجتماعيةُ؛ كان مِنَ المحتَّمِ أن يكونَ هناك تصوُّرٌ فقهيٌّ واضحٌ وصحيحٌ عن القضيةِ، ومعرفةٌ كاملةٌ لأبعادِها
ومآلاتِها؛ نظرًا لخَطَرِها البالِغِ على سلامةِ الأفرادِ وأمنِ المجتمعاتِ واستقرارِها، ولِما تؤولُ إليهِ مِن تَفرُّقِ المسلِمينَ وضَعفِهِم، وانصرافِهِم عن مُواجَهةِ الأخطارِ الحقيقيةِ المحدِقةِ بهم.
ولمَّا كانتْ هذهِ القضيةُ قد بلغَتْ في وقتِنا هذا ما بلغَتْه مِنَ الأهميةِ، ونَظَرًا لظُهُورِ معارَضةٍ مسلَّحةٍ في بعضِ الدول تَعمَلُ على نَزْعِ مَقالِيدِ الحُكمِ مِنَ الحُكَّامِ بقُوةِ السلاحِ مِمَّا أدَّى إلى حُدوثِ تَخريبٍ وتدميرٍ للمُمتَلَكاتِ العامَّةِ والخاصَّةِ، بَلْ وسَفكٍ لدماءِ الأبرياءِ وتَرويعٍ للآمِنينَ؛ فقدْ باتَ مِنَ الضروريِّ توضيحُ العَلاقةِ بينَ الحاكِمِ والمحكومِ، وبيانُ حُكمِ الخروجِ على الحاكِمِ في الشريعةِ الإسلاميةِ الغرَّاءِ. وفي هذا السياقِ يَجِبُ أنْ أؤكِّدَ على عِدةِ أمورٍ:
أولًا: إقامةُ أنظِمَةِ الحُكمِ وتَنصيبُ الحُكامِ ضَرورةٌ تَقتضيها حِراسةُ الدينِ وسياسةُ أمورِ الدنيا، ويَتَطَلَّبُها استِقرارُ المُجتمَعاتِ واستِتبابُ الأمنِ فيها.
ثانيًا: شريعةُ الإسلامِ تَستوعِبُ أنظمةَ الحُكمِ المعاصِرةِ على اختلافِ أسمائِها، بما فيها مِن أنظِمةٍ رئاسيةٍ ومَلكيةٍ وسُلطانيةٍ وأميريةٍ، أو غيرِ ذلك مما تعارَفَ عليهِ الناسُ وقَبِلوهُ نظامًا يَسوسُ أمورَهُم ويَدينونَ له بالولاءِ. ولا يَتعيَّنُ نظامٌ خاصٌّ كما يَزعُمُ بعضُ مَن قلَّ في الدينِ فَهمُهُم مِمنْ حَصروا نظامَ الحُكمِ في نَسَقِ الخلافةِ التي كانَ عليها مَدارُ الحُكمِ بعدَ وفاةِ رسولِنا
الكريم – صلى الله عليه وسلم - إلى أنْ أُسقِطَتْ في عِشرينِيَّاتِ القَرنِ الماضي؛ وذلكَ لأنَّ مَسألةَ تعيينِ نظامِ الحكمِ وطُرُقِ اختيارِ الحاكِمِ ليستْ مِن أُصولِ الدِّينِ التي لا تَقبَلُ الاجتِهادَ، بلْ هي مِنَ الفُروعِ التي تَقبَلُ الاجتِهادَ وتَعدُّدَ الآراءِ، وقَدْ نَصَّ على ذلكَ كَثيرٌ مِن علماءِ الأمةِ الثِّقاتِ؛ فقَد قالَ الإمامُ الغزاليُّ: «اعْلَمْ أنَّ النظرَ في الإمامةِ ليسَ مِنَ المَعقولاتِ، بَلْ مِنَ الفِقهيَّاتِ»، وقالَ الآمِديُّ: «واعْلَمْ أنَّ الكلامَ في الإمامةِ ليسَ مِن أُصولِ الدياناتِ»، وقالَ ابنُ خَلدونَ: «وقُصارَى أَمرِ الإمامةِ أنَّها قضيةٌ مَصلحيَّةٌ إجماعيَّةٌ ولا تَلحَقُ بالعقائدِ»، وقالَ التفتازاني: «لا نِزاعَ في أنَّ مَباحِثَ الإمامةِ بعِلمِ الفروعِ أَليَقُ». ولو كانَ نظامُ الحُكمِ مُتَعَيَّنًا في الخِلافةِ معَ اعتِبارِهِ مِن أُصولِ الدينِ؛ لَبَيَّنَ ذلك النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ورَسَمَ طريقَهُ وألزَمنا باتِّباعِهِ، ولكنَّهُ لم يَفعَلْ، بدليلِ اختِلافِ صَحابَتِهِ – رَضِيَ اللهُ عنهم - بعدَ وفاتِهِ اختِلافًا كبيرًا في اختيارِ خليفةٍ لهُ حتى كادتْ تَقَعُ فِتنةٌ كُبرى بينَ المهاجرينَ والأنصارِ، ثُمَّ بينَ المهاجرينَ أنفسِهِم بعدَ أنْ سَلَّمَ الأنصارُ بأحقِّيةِ المهاجرينَ بخِلافةِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم – إلى أنِ استَقروا في النهايةِ على خِلافةِ أبي بكرٍ الصِّديقِ، فَضلًا عن تَبايُنِ طُرُقِ تولِّي الخِلافةِ وتَعدُّدِ أنماطِها؛ حيثُ اختلفتْ مِن خليفةٍ إلى آخَرَ ابتِداءً مِن عصرِ الراشدينَ مرورًا بعَهدِ الأُمويينَ والعباسيينَ ومَن بعدَهُم.
ومِنْ ثَمَّ، فإنَّ أيَّ نظامٍ يَرتضيهِ الناسُ هو عَقدٌ بينهم وبينَ حاكِمِهِم يُلزِمُ طَرفَيْهِ بآثارِهِ التي توجِبُ على الحاكِمِ رعايةَ مصالحِ المحكومينَ، وتحقيقَ العدالةِ والمساواةِ بينَ الرعيةِ، وإنصافَ المظلومِ والأخذَ على يَدِ الظالمِ، كلُّ ذلك وغَيرُهُ وَفْقًا للبنودِ المحدِّدَةِ لاختِصاصاتِ المؤسساتِ المختلِفةِ والتِزاماتِها، وهو ما يُعرَفُ في زمانِنا بالدساتيرِ والقوانينِ التي تُحدِّدُ صلاحياتِ الحاكِمِ وسُلطاتِهِ وعَلاقَتَهُ ببقيةِ مؤسساتِ الدولةِ، ولِذا رأينا اختِلافًا كبيرًا بينَ سُلطاتِ الحكَّامِ على مدارِ تاريخِنا الإسلاميِّ، فبَعدَ أنْ كانتْ جميعُ السُّلطاتِ في يَدِ الرسولِ – صلى الله عليه وسلم - باعتِبارِهِ رأسَ الدولةِ التي أسَّسَها وأقامَ أركانَها في المدينةِ، تَقَلَّصَتِ اختِصاصاتُ رأسِ الدولةِ شيئًا فشيئًا معَ تطوِّرِ الأنظِمةِ وإنشاءِ الدواوينِ؛ حيثُ انتقلتْ سُلطاتُ القضاءِ والإفتاءِ وغيرِهِما إلى مؤسساتٍ مستقلةٍ تُحدِّدُ الدساتيرُ والقوانينُ العَلاقةَ بينَ كُلٍّ منها.
ثالثًا: الإسلامُ لا يَعرِفُ للحاكمِ مَركزًا خاصًّا يَحميهِ مِنَ النصحِ والتوجيهِ، ويَعفيهِ مِن بعضِ ما يكونُ على أبناءِ الأمةِ مِن واجباتٍ؛ فهو شخصٌ تولَّى الحكمَ ليقومَ على أمورِ الناسِ ويَتولى تَدبيرَ شئونِهِم، فكانَ مِنَ الطبيعيِّ أنْ يُوجَّهَ له النصحُ، وأنْ يُسألَ عن أفعالِهِ، بلْ ويُحاسَبَ عليها كذلكَ وَفْقَ ما هو معمولٌ به في هذا الشأنِ، باعتِبارِهِ فردًا مسئولًا عن أفعالِهِ وتصرفاتِهِ.
رابعًا: على قَدرِ اتساعِ سُلطةِ الإنسانِ وامتدادِ قُدرتِهِ تكونُ مسئوليتُهُ، وكذلك على قَدرِ ضَعفِهِ وعَجزِهِ يكونُ إعفاؤهُ مِنَ الواجبِ، فالمسئوليةُ بالنسبةِ للحاكمِ أكبرُ مِن مسئوليةِ المحكومِ؛ لأنَّ التكليفَ المنوطَ به أضخمُ، ومُطالَبَتُهُ بالعملِ على ما يحقِّقُ للناسِ مصالِحَهُم أكبرُ، ومِن ذلك إعدادُ الخُططِ التنمويةِ، وإقامةُ المشروعاتِ الاستثماريةِ، والاجتهادُ في توفيرِ سُبُلِ الحياةِ الكريمةِ لكلِّ فردٍ من أفرادِ المجتمعِ الذي ولَّاهُ اللهُ عليهِ.
خامسًا: للحاكمِ على المحكومينَ حَقُّ الطاعةِ، وعدمُ خروجِهِم على مقتضَى البنودِ التي تُنظِّمُ العَلاقةَ بينَ الحاكمِ والمحكومِ، ما لم يَثبُتْ إنكارُهُ شَيئًا مَعلومًا مِنَ الدينِ بالضرورةِ، أو يأمُرْ بمعصيةِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، ولا سِيَّما إذا أدَّى الخروجُ على الحاكمِ - بأيِّ شَكلٍ كانَ هذا الخروجُ - إلى مَفاسِدَ.
سادسًا: على الحاكمِ أنْ يُشاوِرَ أهلَ الرأيِ والخِبرةِ مِنَ المحكومينَ فيما يحتاجُ إلى مَشورةٍ، وأنْ تكونَ المشاوَرَةُ بقَصدِ الاهتداءِ إلى القرارِ المحقِّقِ للمصلحةِ والدافِعِ للمَفسَدَةِ، ويكونُ إصدارُ القرارِ الذي يَدخُلُ في اختصاصاتِ الحاكمِ مِن سُلطاتِهِ التي لا يُنازَعُ فيها، وإنْ لم يكنِ القرارُ على وَفقِ المشورةِ؛ فالحاكمُ هو المتحمِّلُ لنتيجةِ قرارِهِ سواءٌ وافَقَ رأيَ الذين استشارَهُم أو خالَفَهُ.
السادةُ العلماءُ الأجِلَّاءُ:
إنَّ الشورى مِن مبادئِ شرعِنا الحنيفِ، وقد أمرَ بها المولى عَزَّ وجَلَّ رسولَنا الكريمَ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ تعالى: «وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ»، وجعلها المولى عَزَّ وجَلَّ سِمةً للمؤمنينَ، فقالَ تعالى: «وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ». وقدِ استشارَ رسولُنا الكريمُ صَحابَتَهُ في مواطِنَ عِدَّةٍ، ونزلَ على رأيِ معظمِهِم أو بعضِهِم في كثيرٍ منها، حتى إنه نزلَ على رأيِ نَفَرٍ مِن صَحابَتِهِ تحمَّسوا كثيرًا للخروجِ لقتالِ المشركينَ في غَزوةِ أُحُدٍ، على الرغمِ مِن أنه كان يُفضِّلُ البقاءَ في المدينةِ لاستغلالِ جَهلِ المشركينَ بِدُروبِها، وهو ما يُسهِّلُ تَصَيُّدَهُم ونَصبَ الأكمِنَةِ لهم إنْ داهموا المدينةَ، وحتى يَتقوَّى المسلمونَ بمن لا يقدرونَ على الخروجِ للقتالِ كأصحابِ الأعذارِ والنساءِ، وذلك لتعويضِ التفوقِ العدديِّ بين جيشِ المشركينَ وجيشِ المسلمينَ. وعلى الرغمِ من أنَّ سَيرَ المعركةِ أثبتَ أنَّ البقاءَ في المدينةِ كانَ الأفضلَ مِنَ الناحيةِ الإستراتيجيةِ، فإنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يؤاخَذْ على الأخْذِ برأيِ نَفَرٍ مِن صَحابَتِهِ. وقد نزلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم – أيضًا على رأيِ بعضِ صَحابَتِهِ عادِلًا عن رأيِ آخرينَ فيما يتعلقُ بأَسْرى بَدْرٍ. وعلى الرغمِ من أنَّ القرآنَ الكريمَ أيَّدَ الرأيَ المتروكَ - وهو المرجِّحُ لقتلِهِم - فإنَّهُ في الوقتِ نفسِهِ أقرَّ العفوَ الذي أخذَ به المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في شأنِهِم، واقتصرَ على مجردِ العِتابِ وبيانِ الحكمِ الأَوْلَى
ليُنتَفَعَ به مُستقبلًا. وفي غَيرِ مرةٍ اعتمدَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - رأيَ صحابيٍّ واحدٍ في أحداثٍ غايةٍ في الأهميةِ والخُطورةِ، ومن ذلك نُزولُهُ على رأيِ سيِّدِنا سلمانِ الفارسيِّ في حَفرِ الخَندقِ حولَ المدينةِ، وتَغييرُ مَوقِعِ عَسكرةِ الجيشِ في غَزوةِ بَدْرٍ اعتِمادًا على رأيِ سيِّدِنا الحبابِ بنِ المنذِرِ، وكِلاهما حالَفَهُ الصوابُ وكان له أكبرُ الأثَرِ في تحقيقِ الغَلَبَةِ للمسلمينَ.
ومِنْ ثَمَّ، فإنَّ للمحكومينَ الحقَّ في إبداءِ الرأيِ ولو كان في تقييمِ أداءِ الحاكمِ نفسِهِ، شَريطةَ أن يكونَ ذلك في حدودِ التعبيرِ عن الرأيِ بالطُّرُقِ والوسائلِ المشروعةِ، ومِن خِلالِ الآلياتِ المنظِّمةِ لذلك، دونَ خروجٍ أو تطاولٍ ينالُ مِن مكانةِ الحاكمِ أو شَخصِهِ، فإذا كان النَّيْلُ مِنَ الغَيرِ - وإن كانَ مِن عامَّةِ الناسِ - مِنَ الجرائمِ المعاقَبِ عليها في شريعتِنا؛ فإنَّ هَيبةَ الحاكمِ ورمزيَّتَهُ تَزيدُ مِن قُبحِ التطاوُلِ وجُرمِ المتطاوِلِ.
الحضورُ الكريمُ:
لقدْ جاءتْ نصوصُ شريعتِنا صريحةً في وجوبِ طاعةِ وليِّ الأمرِ في أيِّ نظامِ حُكمٍ توافَقَ عليه الناسُ؛ ففي كتابِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ وفي كُتبِ الصِّحاحِ مِنَ النصوصِ الآمِرَةِ بطاعةِ الحاكمِ ما يَضيقُ المقامُ عن ذِكْرِ قليلٍ مِن كثيرِهِ، وحَسبُنا مِن ذلك قَولُ رسولِنا الكريمِ - صلى الله عليه وسلم: «خِيارُ أئمتِكِمُ الذين تحبُّونَهم ويحبُّونَكم، وتُصلُّونَ عليهِم - أيْ تَدعونَ لهم –
ويُصلُّونَ عليكم، وشِرارُ أئمتِكِمُ الذين تُبغِضونَهُم ويُبغِضونَكم، وتَلعنونَهم ويَلعنونَكم. قالوا: يا رسولَ اللهِ، أفَنُنابِذُهُمُ السيفَ؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاةَ. إذا رأيتُم مِن وُلاتِكُم شيئًا تَكرهونَهُ فاكرَهوا فِعلَهُ، ولا تَنزِعوا يدًا مِن طاعةٍ».
وهذه الطاعةُ التي أوجَبَها الشرعُ الحكيمُ للحكَّامِ ليستْ لكونِهم أحرارًا يفعلونَ ما شاءوا متى ما شاءوا، ولا لكَونِهم لا يُسألونَ عمَّا يفعلونَ، بلْ لأنَّ في ذلك حِكمةً عظيمةً ومَصلحةً كبيرةً؛ وذلك لِئَلَّا يَتقاتَلَ المحكومونَ فيما بينهم عَصبيَّةً للحاكمِ أو ضِدَّهُ، ولذا مَنَعَ الشارِعُ الحكيمُ الخروجَ على الحاكمِ ولو كان في المحكومينَ مَنْ هو أَصلَحُ مِنهُ، بلْ إنَّ جُمهورَ الفقهاءِ على عدمِ الخروجِ على الحاكمِ ولو كانَ فاسِقًا؛ وذلك لأنَّ غالِبَ الظنِّ أنَّ الخروجَ على الحاكمِ يُفضي إلى تعريضِ الدماءِ والأعراضِ والأموالِ للخطرِ العظيمِ. أمَّا إنْ أجمعَ الناسُ أو غالبيتُهُم على عدمِ صلاحيةِ حاكِمِهِم، وفَشَلِهِ في تحقيقِ مصالحِ المحكومينَ ورِعايَتِهِم، وقاموا بتَنصيبِ غَيرِهِ؛ ففي هذه الحالِ لا تبقَى وِلايةٌ لسابِقِهِ، بلْ على الجميعِ طاعةُ الحاكمِ الجديدِ وإعانتُهُ في القيامِ على شئونِ المحكومينَ، وهو ما لا يَعيهِ «المجددونَ الجُددُ» في زمانِنا جَهلًا أو تَجاهُلًا! والأمرُ نفسُهُ إذا تَغَلَّبَ واحدٌ مِنَ الرَّعِيَّةِ على وليِّ الأمرِ، وبايَعَهُ الناسُ طَوْعًا وكَرْهًا حاكِمًا لهم، وجُوِّزَ ذلكَ معَ كَوْنِهِ
وِلايةً بغَيرِ حقٍّ؛ لِمَا في اختيارِهِ مِنِ اخْتيارٍ لأخَفِّ الضرَرَينِ: سَفْكِ دماءِ الناسِ والإذْعانِ للمُتغلِّبِ؛ حيثُ لا يَخلُو خَلعُهُ مِن سَفْكٍ لدماءِ المسلِمينَ وتَصَدُّعٍ لأركانِ الدولةِ، فكانَ في الإذْعانِ لهُ دَفْعُ الضرَرِ المحقَّقِ، وقدْ نَقَلَ الحافظُ ابنُ حَجَرٍ عنِ ابنِ بَطَّالٍ قولَهُ: «وقدْ أَجمَعَ الفُقهاءُ على وُجوبِ طاعةِ السُّلطانِ المتغلِّبِ والجِهادِ معهُ، وأنَّ طاعتَهُ خيرٌ مِنَ الخُروجِ عليهِ».
وفي كلِّ الأحوالِ، فإنَّ طاعةَ المحكومينَ لحاكِمِهِم مُتوقِّفةٌ على ألَّا يأمُرَهُم بمعصيةٍ أو يُقِرَّ أَمْرًا فيه مخالَفَةٌ صريحةٌ لشريعةِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، فإنْ أَمَرَهُم بشَيءٍ مِن ذلك فلا طاعةَ لمخلوقٍ في معصيةِ الخالِقِ.
وليس للحاكِمِ أنْ يُحاسِبَ صاحِبَ رأيٍ على رأيِهِ ما لم يَتعرَّضْ له بما يُعَدُّ إهانةً تُوجِبُ عِقابَهُ، ولْيَتَأَسَّ الحاكمُ المسلمُ بسَيِّدِ الخلقِ وأَشرَفِهِم - صلى الله عليه وسلم - فَقدْ عُورِضَ وأُوذِيَ مِن بعضِ الناسِ قَولًا وفِعلًا بما أغضبَ الصحابةَ غضبًا شديدًا، فَهَمُّوا بالنَّيْلِ مِن هؤلاءِ والفَتكِ بِهم لولا حِلْمُ نَبيِّ الإنسانيةِ ورحمتُهُ. ولا ينبغي أن يكونَ رأيٌ ما في الحاكمِ مَدخلًا لنَبذِ صاحبِ الرأيِ، أو مانِعًا مِنَ الاستفادةِ مِن خِبراتِهِ متى كان مُؤتَمَنًا على ما يُسنَدُ إليهِ من أعمالٍ، ولا ينبغي أيضًا أن يكونَ ذلك مَدعاةً لظُلمِهِ أو مَنعِهِ مِن حقِّهِ إنْ كان لهُ حقٌّ، فقدْ قالَ سَيِّدُنا عُمرُ - وهو أَميرُ المؤمنينَ - لرجلٍ كانَ قَدْ قَتَلَ أخاهُ: «إني لا أُحبُّكَ حتى تُحِبَّ الأرضُ الدَّمَ.
فقالَ الرجلُ: أَيَمنَعُني ذلك حَقِّي؟ فقالَ سَيِّدُنا عُمرُ: لا. فقالَ الرجلُ: فلا يَضِيرُني كُرهُكَ لي، فإنما تَأسَى على الحُبِّ النساءُ».
وفي الختام.. أُؤكِّدُ أنَّ هُويةَ الدولةِ في الإسلامِ لا يُحدِّدُها النظامُ السياسيُّ السائدُ، بَلْ يُحدِّدُها المسلمونَ مِن خلالِ عقائدِهِم وعباداتِهِم ومعاملاتِهِم وأخلاقِهِم، وأنَّ نظامَ الحُكمِ في الدولةِ الإسلاميةِ هو النظامُ الذي تَتوافَقُ أكثريةُ المسلمينَ على الاحتِكامِ إليهِ والولاءِ لهُ، وتُستَمَدُّ شَرعيتُهُ - كما في سائرِ نُظُمِ العالَمِ - مِن هذهِ الأكثريةِ، وفي الأنظمةِ التي سادتْ في ديارِ الكثرةِ الإسلاميةِ في الأزمنةِ المعاصِرةِ جرَى الإجماعُ على الاحتِكامِ إلى المواطَنَةِ التي تَعني تساويَ أبناءِ الوطنِ الواحدِ في الحقوقِ والواجباتِ، فلا يوجَدُ في الإسلامِ ما يُوجِبُ نظامَ حُكمٍ معيَّنًا، وإنما الواجِبُ أن تكونَ الدولةُ المسلمةُ ملتزِمةً بتطبيقِ شَرعِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وأُؤكِّدُ أيضًا أنَّ تعبيرَ الرعيَّةِ عن رأيهِم في سياسةِ الراعي وإدارتِهِ لشئونِهِم حَقٌّ مَشروعٌ، ومُقابَلَةُ هذا الحَقِّ بالعُنفِ اعتِداءٌ، وثَمَّةَ خَيْطٌ فاصِلٌ بينَ التعبِيرِ عنِ الرأيِ والخُروجِ على أنظِمَةِ الحُكمِ القائِمَةِ، فإذا توافَرَتْ شُروطُ البَغيِ والخُروجِ على الحاكِمِ، ومنها إعلانُ جَماعةٍ مِنَ الناسِ الخروجَ عن طاعةِ الحاكِمِ ابتداءً، وامتِلاكُهُم تأويلًا سائِغًا، وتَحيُّزُهُم واستِعدادُهُم لقِتالِ الحاكِمِ ومَنْ مَعهُ؛ كانَ للحاكِمِ الحَقُّ في رَدْعِهِم بالقُوَّةِ المناسِبَةِ لدَفْعِ شَرِّهِم.
والأدِلَّةُ على مَشروعِيَّةِ تَعبِيرِ الرعِيَّةِ عن رأيِهِم في حُكَّامِهِم أو إدارتِهِم كَثيرةٌ لا يَتسِعُ المقامُ لسَردِها، وإنْ كان ذلك ينبغي أنْ يكونَ بالطُّرُقِ المشروعةِ ووَفْقَ الآلياتِ المنظِّمَةِ حتى لا يَتحولَ الأمرُ إلى فوضى كالتي عانَتْ ولا تزالُ تُعاني منها بعضُ الدولِ.