أنا فتاة أبلغ من العمر واحدًا وعشرين عامًا، منحنى الله قدرًا من الجمال، والهندام فى المظهر، برغم بساطتى.
مررت بظروف أسرية قاسية، تركت فى نفسي أثرًا لا يستطيع أن يمحوه الزمن، وأعترف أنني فشلت في تجاوزها رغم محاولاتي الكثيرة.
أبى يعمل جزارًا فى أحد المحلات بمنطقة شعبية، ويشاركه فى هذا المحل إخوته، وأريد أن أوضح لك أن والدي اشترط قديمًا على والدته أن تحضر له عروسه- كما يقولون- "مقطوعة من شجرة"، كما روت لى جدتى، كانت أمي.
عرفت والدي رجلًا شديد العنف والقسوة، فكان لا يتشاجر مع أمى وإخوته ، إلا وهو يستخدم السواطير.
البيت كله يمتلأ رعبًا منه، فقد كان عنيفًا لحد البلطجة، وحينما يركبه الغضب لا يقيم حسابًا لأحد، كأنه يتشاجر مع أعداء غرباء، حتى أنه أصاب أمى عدة مرات خلال شجاره معها بالساطور فى وجهها، ومرات أخرى فى يدها وكتفها، وفى كل مرة يجبر أمى على عدم قول الحقيقة أمام الطبيب أو الضابط، الذى تبلغه المستشفى بالحادثة، لدرجة أنه كان يهددها بقتلنا أمام عينيها.
شاهدت أمى وهوانها ورعبها منه، وخوفها علينا، ومن إجرامه، وكيف أنها كانت تحيا معه حياة قاسية لا آدمية، وكل مرة يطلقها يردها إليه بالقوة والقهر والضرب المبرح، ولا يستطيع أحد من الجيران التدخل لسوء خلقه مع الكل.
كان الكل يتجنبنا ويتجنب الحديث معنا، خشية منه، اعتدنا الشجار والسباب والدماء فى بيتنا وحياتنا، وأصبحنا منبوذين وسط الجيران.
ويبقى يوم الخميس.. ويا هول ذلك اليوم فى حياتنا، إذ يأتى أبى للبيت مساء كل خميس فى صحبة سيدة مختلفة من بائعات الهوى، ويصرخ فى أمى وفى أخواتى أن نصعد جميعًا إلى بيت جدتى ليمارس بغاءه!
كنا نصعد ولا نناقش ولا نجادل، وتهرول أمى ململمة صغارها على السلم لتختفى من أمامه قبل أن يرتد له طرفه، وكنا نسمع صوت الضحكات عالية مجلجلة فى البداية، ثم يتبعها صراخ وبكاء وجرى وهرولة داخل الشقة، دون أدنى مراعاة لأمي، التي كانت تتواري منا خجلًا، فكانت تغلق على نفسها الباب وتجمعنا، فى محاولة منها ألا نسمع ولا نشعر بما يحدث فى منزلنا، أسفل بيت جدتى.
كنت أنظر لتلك النساء اللاتى يصطحبهن أبى كل خميس، وأحدث نفسي، وأشفق عليهن من هذا الرجل، وأحدث نفسي: ما هذا البؤس الذى تُجبر بعض النساء عليه؟ وما الذى يدفعهن لمصاحبة هذا الكائن؟ وهل فى الحياة من هن أكثر بؤسًا من أمى ومنى أنا وإخوتى؟
استمر هذا الوضع حتى طلق أبى أمى للمرة الثالثة وطردها خارج المنزل، وطردنا معها، وكانت أمى بلا مأوى ولا مورد رزق، وتوسلت له أن يتركها معنا فى البيت ولا يرميها في الشارع، وأين تذهب معنا ونحن ثلاث بنات فى مقتبل العمر.
ما زلت أذكر قسوته وهو يلوح فى وجهها بالساطور، ويهددها بقتلنا إن رأى وجهها مرة أخرى.. توسلت له جدتى أن تبقى أمى ونحن معها فى المنزل بالأعلى، ولن يشعر بوجودنا، لكنه رفض، وتهجم على جدتى رحمها الله.
لا أطيل عليك، ساعدتنا جدتى وقضينا ليلتنا الأولى فى أحد المساجد القريبة من المنزل، فقد كان الجيران يتحاشون القرب منا أو الحديث معنا.
فى الصباح وفرت لنا جدتى إحدى الغرف فى أحد الأحياء البعيدة، وأجرت لنا غرفة بمائتي جنيه، وأعطت أمى فى يدها مائة جنيه.
كنا نرتعد فزعًا، فقد كانت الغرفة واحدة من مجموعة غرف على سطح إحدى البنايات المتهالكة، ولها حمام واحد تشترك فيه باقى الغرف.
مع تلك الظروف القاسية اشتغلت أمى خادمة فى أحد البيوت، وخافت على أختى الكبيرة ذات الثمانية عشر عامًا من العمل، وكذلك أختى الصغيرة ذات الأعوام الستة، واستقرت على أن أعمل أنا، وكنت وقتها أبلغ من العمر اثنى عشر عامًا.
عملت مع أمى فى نفس المنزل، حتى طلبت منا صاحبة البيت أن أذهب لأساعد ابنتها، فهى على وشك الولادة، صرت لا أرى أمى وإخوتى إلا كل أسبوعين ساعات قليلة، كان عناء العمل كفيلًا أن يجبرني على النوم كالقتيلة، ولكن أبدًا ما كنت أستطيع النوم من الرعب والفزع، وما أن يطرق أحدهم باب غرفتى إلا وأهبّ واقفة أمامه من الفزع، ظللت على هذا الوضع فترة طويلة حتى اعتدت المكان، وزال خوفى من الناس، وساعد ذلك كرم وطيبة من كنت أعمل لديهم وعلمهم بظروفى.
مرت الأيام والسنون وأنا أكبر وأرى كيف يعامل الأب أبناءه ويخاف عليهم، ويغدق بل ويبكى لبكاء ووجع أطفاله.
لم أرَ هذا النموذج من قبل، أحببته من كل قلبى، وأحببت أبناءه كأنهم إخوتى، وأحببت حياتى معهم، حتى جاء أتعس أيام حياتى، وأنا معهم فى مطعم شاهدنى أبى إذ كان يورد اللحم لهذا المطعم.
فوجئا بمن يشدنى من يدى، ويلطمنى على وجهى، حتى فهم أننى أعمل لديهم.
تشاجر أبى مع صاحب البيت وذهبا للقسم، وسلمنى القسم لوالدي.
بمجرد دخولي المنزل تذكرت كل قسوة أبي، واستيقظت على يده تعصر رقبتي وهو يهددني بالقتل إن خرجت من البيت.
استطعت الهروب والرجوع لأمى مرة أخرى، وحاولت الرجوع إلى مكان عملى، لكنهم خافوا من أبى لأنه مسجل خطر.
ماذا أفعل وهذا الإنسان يطاردنا، ما إن علم بأننا نشتغل جميعًا ونتحصل على المال حتى بات يلاحقنا في كل مكان، عاد لى الأرق مرة أخرى، وصرت لا أنام من الفزع.
كيف أهرب من قدرى؟ كيف أهرب من أبى؟ ما الحل؟
الرد:
حاولى أن تغيرى مكان السكن، وتحاول أختك أن تغير مكان عملها، والأفضل أن تقوم أمك بتحرير مذكرة له فى قسم الشرطة، بعدم التعرض لكنّ.. أثق أنك ستتجاوزين تلك المرحلة العصيبة من حياتك، وها أنت بالفعل شاهدت نماذج من الأسر الإيجابية، التي تعيش حياة طبيعية..
غدًا سيعوضك الله بزوج حنون ينسيكِ ما عانيته من قسوة والدك وظلم الحياة.
وأحيانًا ما تجبرنا ظروف حياتنا على أن نتعامل مع مواقف صعبة، الخيارات فيها جميعًا سيئة، فنضطر لاختيار أقلها قسوة، أرى أن والدك من نوع الرجال الذين لا يردعهم إلا القوة والتعامل معه بمثل ما يستحق، لذا يجب على والدتك وعليك أنت وأخواتك تحرير مذكرة له فى القسم بعدم التعرض، لكن كذلك قد يفيد تغيير مكان السكن حتى لا يكون دائم التردد عليكن، وحتى وإن علم فى المستقبل بمكانكن فسيكون الزمن قد تغير، فوقتها ستكنّ قد تزوجتنّ وفى حماية أزواجكن.
أثق أن الله سيعوضك خيرًا، ولكن حاولى أن تتجاوزى الخوف والرعب فى حياتك، فأنت الآن وأمك وأخواتك بعيدات عنه.