في أواخر عام 1998 استيقظ المجتمع الليبي على حادثة هي الأغرب من نوعها، إصابة 448 طفلًا بفيروس "الإيدز"، على أيدي ست ممرضات من بينهم طبيب فلسطيني، ولما افتضح أمرهم همو بالفرار إلا أن السلطات الليبية اعتقلتهم جميعا.
وتمسّكت ليبيا بنظريّة المؤامرة، على الرغم من تأكيد لوك مونتانييه، العالم الفرنسي المتخصّص بالفيروسات، وهو أحد مكتشفي الفيروس، بعد دراسته عيّنات من الفيروس الذي أصاب الأطفال، أنّ العدوى أصابت الأطفال قبل وصول الممرضات إلى ليبيا بوقت طويل.
ووجد أيضًا أنّ الأطفال يعانون التهابًا ينتج عن تدهور في مستوى النّظافة وممارسات لا تراعي الاهتمام بالصحّة، كاستخدام أدوات غير معقّمة وإهمال عام في المستشفيات، وانتشار البكتيريا والتلوّث في المستشفيات والعيادات الخاصّة، غير أنّ السلطات الليبيّة رفضت استخدام الدّراسة كدليل في المحكمة.
وحكم القضاء الليبي علي هؤلاء الممرضات ومعهم الطبيب الفلسطيني بالإعدام بتهمة نقل الفيروس بشكل متعمد.
وعلي الجانب الآخر كان هناك سجين ليبي في بلغاريا محكوم عليه بالإعدام لقتله 270 شخصًا، طالب "القذافي" بإطلاق سراحه مقابل أن يطلق سراح البلغاريات، إلا أن السلطات البلغارية رفضت أن تسلم السلطات الليبيه هذا السجين.
وكانت هناك جهات تقوم بدور الوساطة بين ليبيا وبلغاريا، وطالب "القذافي" دولة بلغاريا أن تدفع عشرة ملايين يورو عن كل طفل، وبناء مستشفى متخصص في نقص المناعة في بنغازي على نفقتها، ومعالجة الأطفال المصابين في أوروبا الغربية مجانًا.
مكثت هؤلاء الممرضات في سجون لبيا لمدة عشرة سنوات، وأطلق سراحهم الا أنهم يتحدثون عن المأساة التي لحقت وما تعرضوا له من تعذيب.
فالنتيناسيروبولو وقالت هذه السمراء الرقيقة (58 عامًا) التي تعكس عيناها شبابها الدائم: "نشاطي اليومي حملني على نسيان الإساءات، تعلمت أن أركز اهتمامي على الوضع الصحي والحرية والعائلة".
واستعادت مهنتها في مستشفى مدينة بازاردجيك الصغيرة جنوب بلغاريا، كما كانت قبل القضية التي قادتها مع 4 مواطنين آخرين وطبيب فلسطيني، إلى سجون معمر القذافي، بتهمة حقن أكثر من 400 طفل بفيروس الإيدز بمستشفى بنغازي.
وبتأثر تتذكر هذه الممرضة تلك اللحظات وتقول: "خطفوني في إحدى أمسيات 1999".
وأضافت: "سد رجال فمي بشريط لاصق، ثم عذبوني طوال أشهر، عبر صدمات كهربائية وضرب بالعصي وتهديدات بالكلاب، أما الوقت المتبقي، فكنت أمضيه وحيدة في زنزانة انتظر الموت".
لكن ما حمل سيروبولو على الذهاب الى ليبيا، هو العمل في جناح العناية الفائقة للأطفال، والحصول على راتب يفوق ما تحصل عليه في بلغاريا.
إلا أن السلطات الليبية كانت تبحث عن كبش محرقة لامتصاص الاستياء في بنغازي، إذ كان مألوفًا تحميل هؤلاء العاملين الأجانب مسؤولية إصابة الاطفال بالعدوى عبر عمليات نقل الدم.
وفي أعقاب عمليات التعذيب إبان الاعتقال المؤقت، جاء دور المحاكمة والعقاب: الحكم بالإعدام الذي تأكد في دعوى الاستئناف، قبل تخفيفه إلى السجن مدى الحياة.
ساركوزي
واستمرت عقوبة السجن حتى الخطوة الناجحة في 24 يوليو (تموز) 2007، إذ هبطت طائرة رسمية فرنسية في طرابلس وعلى متنها عقيلة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي حينها، سيسيليا، التي سمح لها بإخراج المسجونين من ليبيا.
من جهتها، قالت ناسيا نينوفا (52 عامًا) الممرضة التي تعنى بالأطفال حديثي الولادة: "عندما أيقظنا الحراس، تخوفت من تنفيذ حكم الإعدام".
كما أوضحت فاليا تشيرفنياشكا، الممرضة الستينية: "عندما وصلت سيسيليا لاصطحابنا، رأيتها كما لو أني أرى العذراء مريم".
ولم يكشف السر المتعلق بالدور الدقيق الذي اضطلعت به الزوجة السابقة للرئيس السابق، على صعيد الإفراج عن الممرضات، رغم تشكيل لجنة تحقيق في فرنسا.
وبصفته مشاركًا في هذه العملية، وصف وزير الخارجية البلغاري السابق سالومون باسي ما حصل على كل المستويات "تدخل الاستخبارات البريطانية، والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي".
وقال: "كانت مباراة طويلة خاضتها حتى النهاية المجموعة الدولية، وانضم إليها ساركوزي في الدقيقة الأخيرة لتسجيل هدف الانتصار".
وبعد الإفراج عن الممرضات، وجهت فرنسا والاتحاد الأوروبي شكرًا للدوحة، فأثارتا بذلك تكهنات حول مساهمة مالية من قطر، لأن باريس وبروكسل أكدتا أنهما لم تدفعا شيئًا.
وأبرمت مجموعة عقود بين باريس وطرابلس في سياق الإفراج عن الممرضات، وتم استقبال العقيد القذافي في فرنسا في ديسمبر (كانون الأول) 2007.
على الصعيد الرسمي، لم تفعل صوفيا إلا إلغاء دين ليبي يبلغ 65،6 مليون دولار.