الأمة العربية هى الأمة التى تميزت بفن الحكى منذ الجاهلية وحتى الآن، فقديماً قيل الشعر ديوان العرب، لأنه كان المعبر عن البطولات والملاحم والسير الشعبية، ومن يومها أصبح الشعر ديوان العرب، وكانت ألف ليلة وليلة فى سردها العميق والرائق، تعبيرًا عن الحياة والحكى، فأصبحت الرواية هى الأخرى معبرة عن الآمال والآلام، والأدب منذ أرسطو وحتى الآن ما هو إلا محاكاة للواقع وتعبير عن الحياة، وإذا كان الشعر - كما قلت - مدوناً لحياة العرب، فإن الرواية الآن أصبحت هى المدونة لحياة العرب، وهذا لا يعنى أن نجم الشعر قد خبا، ولكنه توارى حياء لبعض الوقت فى هذا الزمن، لأنه قد أخذ حظه بما يكفيه، حيث ظل مهيمناً على الساحة الأدبية قرابة سبعة عشر قرنًا من الزمان تقريبًا، ثم جاءت الرواية مع الدكتور محمد حسين هيكل "زينب" فى القرن الماضى، أى منذ أكثر من مائة سنة بقليل، فأصبحت الرواية هى المسيطرة والمهيمنة على الساحة حتى الآن، وكان لحصول أديب مصر والعالم العربى نجيب محفوظ على جائزة نوبل الأثر الكبير فى تثبيت عبارة "زمن الرواية"، فمنذ أن حصل على تلك الجائزة الرفيعة وحتى الآن، والرواية فى تقدم مذهل، فنحن نرى يوميًا أعمالًا روائية تظهر على الساحة، تفوق ما قبلها، أى أن هناك كتابًا عبروا بصدق، فأصبحت أعمالهم فى القمة، والدليل الكتب النقدية التى تكتب عن الفن الروائى.
لذلك سأحاول أن أصطحبكم فى رحلة الرواية منذ ظهورها فى مراحلها الأولى وحتى الآن، لنرى المعاناة وفترات المخاض ثم القوة والوصول إلى العالمية، ثم تثبيت مقولة "زمن الرواية"، فقد مرت الرواية بأربع مراحل حتى وصلت إلى ما وصلت إليه الآن، المرحلة الأولى: وهى المحاولات الأولى للأعمال الروائية، فضلًا عن المعرَّبة، التى دخلت إلى العالم العربى من هذا الطريق، مثل تعريب حافظ إبراهيم رواية "البؤساء" لفيكتور هوجو، وفى تلك المرحلة كان لأمير الشعراء أحمد شوقى بعض الأعمال الروائية التى لم يسمع بها أحد، وهى فى حد ذاتها بداية حقيقية لذلك الفن، مثل رواية "عذراء الهند"، والتى ظلت مفقودة إلى وقت قريب، وفى المرحلة الأولى أيضًا لا ننسى ما قام به الرائع مصطفى لطفى المنفلوطى فى "العبرات والنظرات"، وما قام به الكاتب جورج زيدان فى كتاباته حول الدين الإسلامى، رغم أنه رجل مسيحى، إلا أنه له إبداعه عن الدين والشخصيات الإسلامية، كما فى الأمين والمأمون وعبدالرحمن الناصر، وهذا يؤكد أن الإبداع لا يفرق بين الأديان.
والمرحلة الثانية: من مراحل تطور الفن الروائى كانت مع الدكتور محمد حسين هيكل فى رواية "زينب"، والتى تعتبر سيرة ذاتية للكاتب، وتعتبر أيضًا هى البداية الحقيقية للرواية العربية، رغم الاقتباس الواضح من الأدب الفرنسى، وبالتالى فإن الميلاد الحقيقى للرواية العربية، وعلى أرجح الأقوال مع رواية "زينب" للدكتور هيكل، ومع ظهور هذه الرواية عام 1914 بدأ الكتَّاب الكبار فى الكتابة الروائية، مثل العملاق عباس محمود العقاد فى روايته "سارة"، والتى كانت سيرة ذاتية له، ثم عميد الأدب العربى طه حسين "الأيام"، وتوفيق الحكيم يكتب "عودة الروح"، وحين سافر إلى فرنسا كتب "عصفور من الشرق"، وبدأ فى المسرح، فكتب "يا طالع الشجرة وأهل الكهف" وغيرهما ، ولكن أحدًا من هؤلاء لم ينل منزلة نجيب محفوظ، الذى ظل وفياً للفن الروائى وظل يجود فيه، إلى أن حصل على جائزة نوبل. وهنا لنا وقفة، إذا كان نجيب محفوظ قد حصل على نوبل فهذا راجع إلى انغماسه فى الرواية ولم يحد عنها، بينما العقاد وطه حسين وغيرهما كانوا منشغلين بالأعمال النقدية وقراءة الأدب، فقدموا إلى المكتبة العربية أفضل ما كتب فى النقد والثقافة العامة فى وقتهم، لذلك كان إنتاجهم فى الرواية قليلًا، ومن ثم استحق نجيب محفوظ تلك الجائزة الرفيعة.
المرحلة الثالثة: من مراحل تطور الفن الروائى فكانت على يد نجيب محفوظ، وهنا أصبح هناك اكتمال للنضج الروائى إذا ما اعتبرنا المراحل السابقة هى بداية للنضج والتفتح الروائى فإن مرحلة نجيب محفوظ هى الاكتمال الحقيقى للكتابة الروائية، والتى أصبحت مثالًا سار وراءه الكثيرون محاولين التقليد والإضافة، الأمر الذى جعل للرواية مكانتها العظيمة بين الآداب الأخرى، ولا بد وأن نعى ونعرف أن نجيب محفوظ كان قد تأثر بالكاتب الإنجليزى الشهير ولتر سكوت وحذا حذوه فى كتابة تاريخ بلاده روائيًا، إلا أنه وعلى الرغم من ذلك لم يكتب من الروايات التاريخية سوى ثلاث روايات، هى "عبث الأقدار" والتى كانت أول رواية له كتبت عام 1939 ثم "كفاح طيبة" و "رادوبيس"، وبعدها تطرق نجيب محفوظ إلى موضوعات شتى من التاريخية والرومانسية إلى الواقعية، وينتقل من عبث البحث فى الواقع إلى عبث البحث فى الوجود، فقد تناول العديد من القضايا الوجودية مثل الخوف والعجز واليأس كما فى روايات "السمان والخريف" و"اللص والكلاب" و"الطريق".
لقد حرص نجيب محفوظ على تصوير الواقع المصرى بكل دقة، وبكل ما أوتى من قدرة على ذلك، ممسكاً فى يده كاميرا دقيقة تستطيع أن تلتقط تفاصيل الأشياء، محاولاً فى الوقت ذاته التأكيد على الفكرة التاريخية للأحداث من خلال الوصف والسرد، اللذين يمتلك ناصيتهما جيدًا، ونلاحظ أن نجيب محفوظ وإن استدعى جزئية من جزئيات التاريخ، فإنه يأتى بها من أجل بث قيمة معاصرة وهى الصراع من أجل الحرية، وهو فى طريقه إلى ذلك لا ينسى أن يُخضع ذلك التاريخ للفن الروائى، الذى جعله يسهل قراءة التاريخ، حين أدخل عليه عنصرى الزمان والمكان، فضلاً عن الحدث والعقدة والشخصيات الرئيسية والثانوية. وهذا الأمر نراه بوضوح أكثر فى رواياته التاريخية الأولى.
وتاريخياً يصور تلك الأحداث التي مرت بها مصر قبل وبعد ثورة 1952وهو ما رأيناه في رواية " السمان والخريف " والتي كتبت عام 1962، وهي من الروايات الواقعية التي انتقل فيها من الواقعية الطبيعية إلى الواقعية الوجودية، حيث سار فيها نجيب محفوظ على منوال الرواية الواقعية التي تصور الواقع الذي عاشه المصريون في تلك الحقبة التاريخية كما كان الحال في القاهرة الجديدة وخان الخليلي وزقاق المدق والسراب وبداية ونهاية فضلاً عن رواية الطريق التي بحث فيها البطل صابر السيد الرحيمي عن المخلص ولكنه لم يجده وكأنه يناشد الله فهي أزمة من أزمات الوجودي؛ ذلك الرجل الذي يبحث في حياته عن مجهول بعيد المنال يبدو في نهاية الطريق. إنه يبحث عن حياة فيها الإنسان ما زال إنساناً، عن ضوء نور ينير له دروب حياته المظلمة، بل والمعتمة من الظلمة الحالكة، إنه يبحث عن والده الذي ينكره حتى في المنام. إنه القلق الوجودي بكل أشكاله، والكينونة البشرية التي يراد لها أن تظل في بحث دائم عن كرامة قد ضاعت وحرية سلبت وعدل أصبح مفتقداً وسلام بعيد المنال.
المرحلة الرابعة: هى مرحلة ما بعد نجيب محفوظ، التى نحياها الآن والتى تعتبر امتدادًا له ولفكره، لأنه هو من أرسى قواعد الفن الروائى، وهو الأمر الذى بات واضحًا حين تفجرت ثورة يناير 2011 من كل حدب وصوب وجاء الكتاب كي يعبروا عنها إلا إنهم لم يستطيعوا التعبير عنها لأن منجزاتها لم تتحقق بعد وما وجدناه من كتابات هنا وهناك ما هي إلا بذور قليلة من أعمال ننتظر ظهورها، فإن هناك بعض الكتاب صوروا هذا الواقع وما تلا الثورة بطريقة عجائبية غرائبية، مثل الكاتب منتصر أمين فى روايته "يحيى وصحف أخرى".
ولا ننسى الشرارة الأولى التى أيقظت الشعوب من ثباتها إنها الثورة التونسية وجاء الأدب معبراً عنها أو منذراً بحدوث تلك الثورة وهو ما عبر عنه الكاتب التونسى شكرى المبخوت في روايته " الطليانى" وكان الوطن فى هذه الرواية هو اللغة العربية التي تعرَّت عن المحرمات لتصف الجسد والعشق والثورة والهياج الوطنى مع عبدالناصر الطليانى اليسارى فى الجامعة ومحبوبته زينة، حيث تحكى الرواية قصتهما معاً فعبدالناصر هو ذلك الفتى الوسيم وسمى بالإيطالي لوسامته وهى تلك الفتاة الثائرة، التي عشقت فكر الحبيب بورقيبة الباحث عن الحرية والذي أعطى النساء حقوقاً أكثر من الرجال، جاءت تلك الفتاة من الجنوب متأثرة بذلك الفكر الثورى، فأصبحت الرواية تسرد مرحلة فاصلة في تاريخ تونس وهي المرحلة التي تلت الحبيب بورقيبة وصولاً إلى إنقلاب بن على، وقد تناول الكاتب فى هذا العمل الخالى من الخيال طموحات جيل كامل نازعته طموحات وانتكاسات ما بين صراع الإسلاميين واليساريين، والرواية من الوجهة الفنية هى رحلة فى عالم الجسد والثورة والانتهاك والانتهاز وكانت لغتها لغة مدهشة صورت المشاهد تصويرًا رائقًا.
من هنا فإن الرواية العربية فى المرحلة الرابعة أصبحت أكثر قربًا من الحياة ومعبرة عنها بكل أطيافها، وكذا الأحداث العضال، التى تعيشها الأوطان بطريقة أدبية رهيفة، وأصبحت الرواية هى الديوان المعبر عن الآمال والآلام، فكان حقًا علينا أن نحكم على هذا الزمن بأنه "زمن الرواية".