الرصيف واحد والهموم مختلفة، فإنسان يجلس على الرصيف ينتظر من يعطف عليه، وآخر يفكر في حال الدنيا وهمومها، وثالث يرشدك على الطريق، طمعًا في جني القليل من المال، ولكن مهما تنوعت الهموم، فالحياة تسير على شريط قطار لا يوقفه إلا الموت.
يجلس عم محمد في هدوء وسكينة، يستمع إلى ضوضاء السيارات وحديث المارين، تتساقط حبات العرق من جسده، مع ارتفاع درجات الحرارة، ولكن جيبوبه الفارغة وحلمه في توفير حياة مستقرة لأطفاله الذين لم يتعدى عمر الكبير منهم 10 أعوام، يدفعه لتحمل حرارة الجو ونظرات المواطنين من حوله، فهي قادرة على إهانة كرامته وزيادة شعوره بالعجز، وهذا ما يجعله دائمًا يضع نظرات في الأسفل.
يظهر على "عم محمد" الذي يعمل "شيال" في شارع رمسيس علامات عدم الاتزان، فهو يظل ساعات ناظرًا إلى السماء دون أن يتكلم، وفي أوقاتًا آخرى لا يتوقف عن توجيه الحديث إلى المارة من حوله، رغبة في الحصول على عطفهم، وجني القليل من الجنيهات التي تسد رمق أطفاله الصغار، الذين لا يتوقفون عن البكاء؛ لشعورهم بالجوع.يجلس "الشحات" الذي يرتدي بنطال قديم وقميص مفتوح إلى منتصف الصدر، طالقًا لحيته، يتفحص كل من يمر بجانبه، ينتظر أن يحصل على صدقة تؤمن له طعامه، فهو لا يطمع في منزل وملابس نظيفة، بل في طعام له ولأطفاله.
مرت 60 دقيقة و"الشحات" جالس لا يفارق الرصيف، يتزايد عدد المارين في الشارع، فذلك ذاهب إلى بيته، وأخر يتنزه، ولكن بالرغم من زيادة عددهم حوله، فلا أحد يعطف عليه أو ينظر إليه باهتمام، فنظرات الدهشة من مظهره هي الوحيدة التي وجدها.
وفي مكانًا آخر في نفس المنطقة، يجلس رجلًا يدعي مصطفي، ظهرت علامات الزمن على شعره، فاختفى شبابه ولم يعد منه إلا رجل طويل القامة نحيل الجسد، لا يملك في جيبوبه جنيهًا واحدًا ليطعم أطفاله الصغار، الذين لا ذنب لهم في حياة الفقر والجوع التي وجدوا أنفسهم بها منذ ولادتهم.
لا يوجد من يستطيع أن يوقف عقارب الساعة، أو أن يعود بالزمن إلى الخلف، فذلك هو حال مصطفي الذي مر به العمر ورزقه الله أطفالًا، فلم يجد سبيلًا لسد حاجاتهم إلا العمل شيال في شارع رمسيس.
يجلس "مصطفي" الذي يظهر على وجه علامات الزمان، فيبدو من الوهلة الأولى أنه رجل في الـ60 من عمره، دائمًا صامتًا، ولكنه عينيه تتحدث إلى كل من يمر أمامه، فهو يجلس يوميًا منذ الصباح الباكر إلى الليل في الشارع، أملًا في الحصول على "لقمة العيش".
يظهر من طريقة جلوس مصطفي الذي دائمًا يحب أن يضع قدمًا فوق الآخرى، نحافة جسده الذي لم يعد يتحمل الجلوس في الشوارع لمدة طويلة، يتصبب عرقًا في الصيف تحت أشعة الشمس، ويغزو البرد عظامه في ليالي الشتاء العاصفة، فتلك الحالة ليست حالة الشيال بمفرده، بل حال أطفاله وزوجته التي تتحمل مشقة الحياة معه.
"ده شيال على باب الله، بيقعد هنا كل يوم من الصبح لحد بالليل، عشان لقمة العيش"، كانت تلك الكلمات التي قالها "عم محمد"، هي ملخص لحياة "الشيال" الذي يجلس يوميًا في شارع رمسيس.
ولكن يبدو أن سكان المنطقة لا يعلمون شيئًا عنه، وذلك حسبما ذكر "عم محمد" في قوله: "في المنطقة اتعودنا على وجوده، لكن منعرفش عنه حاجة عشان مش بيتكلم كتير".