تكتسي ذكرى وعد بلفور المشؤوم في 2 نوفمبر 1917 هذا العام دلالات خاصة وهو الوعد الذي تمثل في إعلان أو تصريح قدمه وزير خارجية بريطانيا حينها اللورد جيمس بلفور إلى ممثل المؤتمر اليهودي روتشيلد واعدا فيه بمساعدة اليهود على اقامة وطن قومي لليهود في فلسطين وكان ذلك التصريح هو البداية الحقيقية للمؤامرة الاستعمارية الغربية على فلسطين وشعبها والتي مازال يعاني منها الفلسطينيون والأمة العربية حتى يومنا هذا.
أن تذكر وعد بلفور هذا العام يكتسي دلالات ذات هدف في ضوء إعلان الرئيس الاميركي جورج دبليو بوش في 2 اكتوبر 2001 اعترافه بأهمية اقامة دولة فلسطينية أي قبل شهر واحد بالتمام والكمال من حلول الذكرى الـ (84 ) لوعد بلفور وهو ما اصبح يطلق عليه في وسائل الاعلام والصحف العربية خاصة (وعد بوش) والذي اعلن فيه الرئيس الاميركي "ان الدولة الفلسطينية كانت باستمرار جزءا من الرؤية أو التصورات الاميركية لحل مشكلة الشرق الاوسط شريطة ضمان أمن اسرائيل".
وقد احتل هذا التصريح الاميركي اهميته التاريخية في ضوء انه أول اشارة رسمية اميركية تصدر عن رئيس اميركي وخاصة جمهوري الى ضرورة الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في اقامة دولة مستقلة له.
فقد تحدث كارتر في نهاية السبعينيات وبعد مفاوضات كامب ديفيد للسلام بين مصر واسرائيل عن انه يتفهم ضرورة اعطاء (وطن قومي للفلسطينيين) في حين صرح الرئيس كلينتون خلال زيارته لغزة وخطابه أمام المجلس التشريعي الفلسطيني في جلسة اقرار إلغاء بنود الميثاق الوطني الفلسطيني التي رأت فيها اسرائيل انها تدعو الى تدميرها انه هو أي كلينتون على اقتناع بضرورة قيام الفلسطينيين بتقرير مصيرهم على ارضهم وقبيل مغادرة كلينتون للبيت الابيض وبعد فشل مفاوضات السلام في كامب ديفيد طرح كلينتون افكاره التي رأى انها ستكون محورا لأي مفاوضات تسوية نهائية بعد رحيله عن البيت الابيض فيما يشبه (الكلمة الوداعية) متحدثا عن أن اقامة دولة فلسطينية ستكون جزءا من أي جهود ناجحة لتسوية الصراع في الشرق الاوسط في المستقبل.
-وعود غامضة
إن مشكلة كل هذه التصريحات انها لم تحدد بوضوح حدود الدولة الفلسطينية التي يجرى الحديث عنها ومشكلة وعد بوش الاخير كما هو الحال في تصريحات كلينتون وكارتر من قبل انها تركت الامور دوما غائمة وغامضة واخطر من ذلك فإنها تربطها بالرؤية والارادة الاسرائيلية للحل أو لشكل الدولة الفلسطينية المقبلة.
فالملاحظ ان قادة اسرائيليين كبارا من أمثال بيريز وباراك وحتى شارون نفسه قد تحدثوا بشكل أو بآخر عن امكانية قيام دولة فلسطينية ولكن بالطبع وفق المنظور الاسرائيلي الاستعماري الذي يهدف الى جعلها دولة اسما ومحمية اسرائيلية واقعا ومضمونا.
أما المفارقة التاريخية الكبرى فهي ان تنقلب الامور بسبب المؤامرات الاستعمارية الغربية فيصبح اصحاب الارض والحق الاصليون وهم الشعب الفلسطيني هم من يبحثون عن الاعتراف بحقهم في اقامة دولة لهم وان يستغرق الاعتراف الغربي بحقهم هذا اكثر من 84 عاما لكي تبدأ القوة العظمى في العالم وهي اميركا في الاعلان بطريقة خافتة وغامضة في التفكير عن تصورها لإمكانية قيام دولة فلسطينية.
في حين ان الاقوام المجلوبين الى فلسطين من الشتات اليهودي في مختلف انحاء الارض ينظر اليهم على انهم الاجدر واصحاب الحق الاصلي في اقامة دولة على ارض فلسطين.
وهنا يجب ان نتذكر انه حين اعلن بلفور عام 1971 عن وعده المشؤوم هذا كان عدد السكان اليهود في فلسطين لا يتجاوز 7% من السكان في حين كان السكان الفلسطينيون العرب يمثلون نحو 93% من السكان.
ولكن بفضل المساعدة البريطانية لليهود ومنحهم التسهيلات للهجرة الى فلسطين بعد ان نجحت لندن في فرض الانتداب البريطاني على فلسطين بعد الحرب العالمية الاولى نجد ان تعداد اليهود في فلسطين قد ارتفع من 7% عام 1917 الى 31.4% لدى اعلان قيام اسرائيل في 15 مايو 1984م.
-ظلم تاريخي
ومن هنا نقول ان قضية فلسطين تظل تجسد مدى الظلم التاريخي الذي أوقعه الغرب الاستعماري بالشعب الفلسطيني ومعه الامة العربية وكان فرض أو زرع اسرائيل في المنطقة سببا في ابقاء علاقات الصراع والصدام بين العالم العربي والاسلامي من ناحية والغرب من ناحية اخرى حتى يومنا هذا رغم انتهاء حقبة الاستعمار الاوروبي في العالم تقريبا منذ منتصف القرن الماضي.
واليوم وبعد 84 عاما على وعد بلفور المشؤوم فإن العلاقات بين العالم العربي والاسلامي والغرب تقف على مفترق طرق تاريخي يمثل حل القضية الفلسطينية فيه أساسا محوريا لتحديد مستقبل هذه العلاقات وخاصة بعد احداث 11 سبتمبر في أميركا وما جرته من اعلان الحرب على الارهاب وشن اميركا بمساندة بريطانيا الحرب ضد افغانستان فهل تتجه هذه العلاقات نحو تفاهم وتعاون أم الى جولات جديدة من الصراع وهل يشكل اعلان بوش عن الدولة الفلسطينية بداية تصحيح الغرب لخطايا وعد بلفور وخاصة ان رئيس الوزراء البريطاني توني بلير وهو زعيم حكومة عمالية مماثلة للحكومة العمالية البريطانية التي صدر في عهدها وعد بلفور يقوم بحملة اعلامية وسياسية في الوطن العربي للترويج لفكرة ضرورة اقامة دولة فلسطينية.
-مصير وعد بوش
إن اعلان بوش اذا أطلقنا عليه مجازا "وعد بوش" قد جاء في سياق المحاولات الاميركية لمحاولة بناء تحالف دولي مساند لأميركا في حربها المعلنة ضد الارهاب وقد سعى إلى امتصاص نقمة وغضب الشارع العربي والاسلامي ضد السياسات الاميركية المنحازة بشكل كامل لاسرائيل والتي لم تعر معاناة الشعب الفلسطيني منذ أكثر من عام تحت وطأة العدوانية الوحشية الاسرائيلية اي اهتمام حقيقي بل ان بوش نفسه أدار ظهره للفلسطينيين قبل 11 سبتمبر الماضي.
ورغم ما نشرته صحيفة "الفايننشال تايمز" مؤخراً من ان الاعلان الاميركي بتأييد اعلان قيام دولة فلسطينية كان جزءا من مبادرة كان وزير الخارجية الاميركي كولن باول يخطط للاعلان عنها في 24 سبتمبر 2001 في خطاب في الامم المتحدة وان هذه القناعة تبلورت نتيجة اتصالات اميركية مع دول عربية رئيسية مثل السعودية ومصر لكن كل هذا لا ينفي ان اعلان بوش قد جاء في 2 اكتوبر 2001 ضمن حملة اميركية لاستمالة العالم العربي والاسلامي للحملة الاميركية ضد الارهاب وخاصة قبيل ايام من شن الحرب الاميركية ضد افغانستان والتي بدأت بعد ذلك بأيام في 7 اكتوبر 2001.
وهذا ما يؤكد الطابع البراجماتي والدعائي للاعلان الاميركي ويثير المخاوف العربية مجددا من ان يكون وعد بوش مجرد مناورة سياسية لا جدية حقيقية وراءها.
ثانيا: ان على العرب ان يتذكروا دوما ان الغرب وخاصة اميركا سيظل يقف وراء اسرائيل طالما انه يتصور انها تحقق له مصالح استراتيجية في المنطقة.
وفي هذا السياق لعل من المفيد الاشارة الى ان اسرائيل بالنسبة الى الغرب تشكل رأس الرمح المتقدم لإجهاض المحاولات العربية للنهوض والتقدم والوحدة حيث تلاقت أهداف المشروع الصهيوني في اقامة دولة يهودية في فلسطين مع المشروع الاستعماري لاجهاض وحدة العرب وقد عبر عن ذلك ساسة بريطانيون كبار من ابرزهم: اللورد بالمرستون رئيس وزراء بريطانيا في القرن التاسع عشر الذي قال عام 1838: (ان بعث الامة اليهودية في تلك البقعة (فلسطين) سيعطي القوة السياسية الانكليزية.. كما ان الشعب اليهودي اذا عاد الى فلسطين سيكون كابحا لأي مخططات شريرة في المستقبل من قبل محمد علي أو خلفائه).
وعبر عن ذلك ايضا رئيس وزراء بريطانيا الشهير ونستون تشرشل في وقت لاحق قائلا: (ان وعد بلفور ما هو الا إجراء عملي كان يجب اتخاذه لتحقيق المصلحة المشتركة).
وقد اعلن كولن باول وزير خارجية اميركا تأكيده هذا الاهتمام باسرائيل بعد تصريح بوش عن الدولة الفلسطينية بقوله: (ان اميركا تعتبر اسرائيل صديقا قويا وسندعم أمنها على الدوام).
ولعل التحدي الذي سيظل ماثلا أمام العرب في المستقبل هو كيفية ايضاح ان وجود اسرائيل لا يشكل مصلحة استراتيجية للغرب في المنطقة بل هو عبء على علاقات الغرب بالعالم العربي والاسلامي وخاصة في زمن الازمات الكبرى بدليل استبعادها من التحالف الغربي لتحرير الكويت عام 1990 ثم التحالف الراهن للحرب ضد الارهاب كما ان استمرار سياساتها العدوانية يفاقم من الكراهية للسياسات الاميركية والغربية في العالم العربي والاسلامي والذي هو على استعداد لبناء علاقات تعاون قائم على المصالح المتبادلة وفي طليعتها تأمين امدادات النفط لأنها مصلحة مشتركة بين العرب والغرب.
ولهذا فإن من مصلحة الغرب تحجيم العدوانية الاسرائيلية ودفعها الى الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني بما يحفظ للغرب مصالحه الحيوية في العالم العربي والاسلامي وخاصة النفط بعيدا عن لغة الصراع التي تعمل اسرائيل باستمرار على تأجيجها.
ثالثا: ان من حق العرب ان ينظروا بعيون من الشك والريبة لوعد بوش ومحاولات بلير لترويج فكرة تأييد اقامة دولة فلسطينية لأن تاريخ العرب في العصر الحديث مع الغرب هو تاريخ طويل من الوعود الكاذبة والخداع وخاصة بعد نكوص بريطانيا عن وعودها للشريف حسين بن علي قائد الثورة العربية الكبرى خلال الحرب العالمية الاولى بمنح الاستقلال للعرب في حين عملت بريطانيا بالمقابل على تنفيذ وعد بلفور لليهود.
وبعد حرب الخليج الثانية وعد الرئيس الاميركي بوش (الأب) العرب عبر تعهدات قدمها وزير خارجيته بيكر بحل شامل للصراع العربي ، الاسرائيلي وتطبيق قرارات الشرعية الدولية بشأن القضية الفلسطينية مثلما يتم تطبيقها على العراق.
ومن هنا فإذا كان الغرب جادا هذه المرة في حل القضية الفلسطينية (بؤرة الصراع والصدام مع الغرب) فإن عليه ان يقدم ضمانات ومقترحات محددة لكيفية رفع المعاناة عن الشعب الفلسطيني وانصافه بمنحه الحق في اقامة الدولة على الضفة وغزة والقدس الشرقية وهي الاراضي التي احتلت في عدوان 1967م.