تعددت ثورات الشعب المصري على حاكميه الظلمة على مر التاريخ، من بين أبرز الثورات التي شهدتها مصر في العصر الحديث، هي ثورة 13 مايو، التي قادها البطل الثوري «عمر مكرم».
ورغم أنها كانت ثورة بدائية ولا تشبه ما حولها من الثورات، لاختلاف الظروف النسيج الاجتماعي المصري عن في غيره من الدول في ذلك الوقت، لكن كان لها أهمية كبيرة جدًا حيث إنها كانت بداية لتغيير النظام السياسي المصري، ويرجع الفضل لها في تغير مسار تاريخ مصر الحديث تماما.
بدأ تاريخ مصر الحديث مع قدوم الحملة الفرنسية على مصر عام 1798 بقيادة نابليون بونابرت، ساعدت تلك الحملات في تغيير مفاهيم كثيرة لدي الشعب المصري، كما ساعده مقاومة الشعب لتلك الحملات إلى التفافه حول الأزهر الشريف، كونه منبرًا للثورة ومركزًا لمقاومة الاحتلال، كما فتحت الباب للتجار والأعيان للمشاركة في الوسط السياسي وتم حشد عدد كبير من الجماهير المصرية.
وبعد فشل الجيوش العثمانية في إجبار الفرنسيين من مصر، تدخل الجيش الإنجليزي في ذلك ونجح في إجلاء الفرنسيين من مصر عام 1801، وأصبحت مصر عبارة عن كتلة سياسية قوية تتصارع على نظام الحكم.
وبالرغم من أن الشعب كان على يقين علم بالحاكم القادم الذي يتم تعينه، فإن قوة الوالي القادم كانت متهالكة حيث إنها تمثلت في الشرعية الدينية المتمثلة في السلطان العثماني.
في تلك الحقبة الزمنية لم يكن الوالي وحده الذي يحكم مصر، بل كان الحكم الفعلي للمماليك، وما هو إلا شكل صوري لنظام الحكم، ومع قدوم الحملة الفرنسة على مصر فر معظم المماليك بسبب الهزائم المتتالية التي شهدوها من الحملة الفرنسية، وبعد طردهم من مصر وهزيمتهم قاموا ببناء جيش قوي وتوحيد صفوف الجيش المملوكي، ولكن كانت السمة الغالبة عليهم في البلاد هي التشرد. وقد استغل الفرنسيين هذا فكانوا يراهنون على القوى المملوكية حيث كان لكل فريقه ومؤيديه، وعلى رأسهم الربديسي بيك، والألفي بيك. وغيرهما. وكان الفرنسيون يميلون للبرديسي، في حين أن الإنجليز يميلون للألفي بيك الذي أخذوه خارج البلاد، وتم تدريبه وشراء ولائه لإنزاله مصر لتولي السلطة عام 1804.
في حين أن البلاد في ذلك الوقت كانت تشوبها حالة الفوضى العارمة بسبب وجود الجيش العثماني الذي شُكل للتصدي للفرنسيين وطردهم من مصر، والذي كان متعارف عيله بعدم تجانسه أو اتحاده، الأمر الذي أدى إلى انتشار قوات من جنسيات مختلفة بعدما فقد الوالي العثماني القدرة على السيطرة عليهم، منهم اللواء الألباني، وفصائل المغاربة... إلخ، كل له قيادته الخاصة، ومطلوب توفير مرتباتهم من خلال الضرائب المفروضة على المصريين.
وكان من بين هذه القوات شاب يدعي «محمد علي»، وكان ثالث الضباط من حيث الأقدمية في اللواء الألباني الذي كان يرأسه طاهر باشا، ومع مرور الوقت آلت قيادة اللواء الألباني محمد علي وهو شاب في العشرينات من عمره، وكان يتمتع بذكاء خارق وقوة وعزيمة وقدرة فائقة على المناورة والتحالف.
بدأ محمد علي بمحاكاة المماليك، سواء من خلال التحالف معهم أو ضدهم حسب الظروف السياسية، خاصة أن قواته لم تكن كافية لنشر سيطرتها على البلاد، وكان الرجل على علم كامل بأن الباب العالي لم يكن على استعداد لدعمه كوال على مصر التي تعتبر من أهم الولايات العثمانية وبالتالي لا يحكمها إلا من ظهر ولاؤه للدولة العثمانية.
لم يكن في حسبان أحد أن يكون «محمد علي» صاحب الحظ الأوفر، حيث كتب القنصل الفرنسي لدى مصر ليؤكد لباريس أن «محمد علي» غير قادر على أن يكون واليًا على الولاية المصرية، مشيرا إلى أنه لا يملك أي مشروعات كبرى... «ولو سلمنا جدلا بأنه فكر فيه، فليس لديه من الوسائل ما يمكنه من تنفيذ ما يفكر فيه»، ولكن هذا الشاب كان له فكر آخر، ولقد أدرك محمد علي بفراسته السياسية أن رهانه يجب أن يكون على الطبقة الوطنية الصاعدة ممثلة في التجار والأعيان والمدعومة من قيادات الأزهر الشريف والشعب، أخذ مجالات الاتصال يفتح قنوات معهم ليستقطبهم تدريجيا وويحرضهم ضد الوالي مرة وضد قادة المماليك مثل البرديسي ويحثهم على الثورة عليه مرة أخرى.
فخرج جميع فئات الشعب خاصةً بعد زيادة نسبة الضرائب لتهتف «يا برديسي يا برديسي إيش تاخد من تفليسي؟»، واستمر محمد علي في محاولاته حتى جاءت لحظة الحسم في مايو 1805 عندما أعلن خورشيد باشا قرار السلطان العثماني تولية محمد علي ولاية جدة بالحجاز.
لم يؤثر ذلك القرار على محمد علي، حيث قرر أنه تارك نفسه تحت تحكم القيادات الشعبية المصرية والتي كانت تتوسم فيه الشخصية المناسبة لتولي الحكم عليهم. وعلى إثرها عقد المصريون معه اتفاقا لمساندته ودعمه مقابل خروج عساكر القوى المختلفة من القاهرة وعدم فرض ضرائب عليهم إلا بعد إذنهم، واستشارتهم في الأمور الهامة الخاصة بهم.
ومع قبول «محمد علي» شروط الاتفاق قامت ثورة عارمة في وجه خورشيد باشا وحاصروه في القلعة إلى أن فر منها، وطالبوا بتولية محمد علي على مصر، ومع الضغوط الشعبية القوية والثورة الجماهيرية أعلن السلطان استجابته لمطالب الشعب بعزل خورشيد باشا وتولي محمد علي على حكم مصر.
ورغم أن محمد علي نقض عهده نقضًا تامًا وشتت أواصر الطبقة الوطنية المصرية الصاعدة وآخرها من خلال نفي قائدها عمر مكرم بعد عامين من توليه الحكم، فإن هذه الثورة تعد بكل المعايير ثورة فريدة من نوعها للأسباب التالية:
أولا: لأنها تمثل أول حركة ثورية من نوعها تخرج عن عباءة القومية الدينية وتدفع نحو شرعية جديدة لم تكتمل أركانها بعد، حيث كان من المتبع في ذلك الوقت الولاء التام للسلطان العثماني وأن أي خروج عليه يمثل خروجا على الشرعية والدين، وبالتالي فإن هذه الثورة تعد
ثانيا: فتحت الطريق أمام فكرة اختيار الشعب لحكامه، وبالتالي فرض الشعب حقه في الاختيار، أي أحقية المصريين في اختيار حكامهم وعدم خضوعهم لرغبة السلطان العثماني الذي خضعت البلاد لحكمه وسياسته على مدار قرون ممتدة، فكانت هذه الثورة الأولى من نوعها لنشر فكرة الديمقراطية في السياسة الداخلية المصرية.
ثالثا: فتحت الطريق أمام بناء أول دولة مدنية في التاريخ المصري الحديث، أي أول دولة تُحكم على اأسس سياسية مبنية على الشرعية والمؤسسية الوطنية، ولكل هذه الأسباب، أصبحت ثورة مايو 1805 تعد في التقدير من أهم الحركات الثورية، ليس فقط في مصر ولكن في الوطن العربي ككل، فهي تعبير عن بداية ظهور الدولة الوطنية أو القومية في هذه المنطقة.