هل السعي إلى الخلود فناء، والرضى بالفناء خلود؟ هل تتصالح الأضداد فتصير الحياة موتا والموت حياة والخلود فناء والفناء خلودا، فيتحقق الخلود الذي هو موت ويتحقق الموت الذي هو خلود؟ علينا أن نغوص في النمط الأول لِأَصْل هذه الثنائية فربما يتحقق تصالحٌ لا يكون شكلاً بلا مضمون، ظاهرًا بلا باطن، سطحًا بلا عمق. لننقب في الحاضر مرة وفي التراث مرات لعل التناقض الظاهري لهذه الثنائية ينجلي فيصير جوهرًا واحدًا أصيلًا.
في الإسلام، الروح والجسد نقيضان متلازمان، ينفصلان ليتحدا لتتصالح الثنائية في أسمى صورها: "منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى" (طه، 55). وفي الكتاب المقدس، يبتهل الرسول بولس متضرعا: "مخلصنا يسوع المسيح الذي أبطل الموت وأنار الحياة والخلود بواسطة الإنجيل" (10.1). وفي الهندوسية، تذوب "آتمان" - الذات الفردية - في "براهما" - ماهية العالم وأصل كل الموجودات - لتعلن "آتمان": "أنا هو براهما" لتتحقق وحدة الفناء والخلود. وفي البوذية تتحقق النرفانا - طوباوية الخلود - عندما يصل الإنسان إلى الكمال بعد سلسلة متصلة من الموت والولادة ليصبح زاهدا ناسكا، فانيا خالدا. وتؤمن الزرداشتية أن سبب الخلق يكمن في وجود قوة الخير (الإله أهورا مزدا) التي تقابلها قوة الشر (الإله أهريمن)، والإنسان هنا مزيج من الاثنين: الخير والشر؛ سبب الخلود والفناء.
وقد وَلَع القدماء شرقا وغربا بالتّغلب على الفناء بمحاولة اكتشاف حَجَر الفلاسفة، ذلك الإكسير الخرافي، والذي بتناوله يتحقق الخلود، فأيقنوا في النهاية أن الفناء هو الإكسير الحقيقي للأبدية. والثنائية حاضرة في أسطورة عشتار وفيها يٌعقد اتفاق بين عالم الأموات وعالم الأحياء فتعيش عشتار ستة أشهر في عالم الأموات (فصلا الخريف والشتاء) وستة أشهر في عالم الأحياء (فصلا الربيع والصيف)، فهي الفانية الخالدة، الخالدة الفانية. وهناك أخيليس، نصف الإله الإغريقي، الخالد الجسد إلا من كعب قدميه والذي أودى بجسده في حرب طروادة لتعود روحه إلى آلهة جبل الألمبوس، فصار الخالد الفاني. أما أورفيوس، صاحب القيثارة الساحرة، فيذهب إلى عالم الموتى لاستعادة زوجته يوريديس، وعندما يفشل يموت كمدا ليجتمع شملهما مخلدين في العالم الآخر.
وتسعى ثنائية الفناء/الخلود للتصالح في التراث العربي، فينتصر الشاعر الجاهلي على الموت بمواجهته وجها لوجه في ساحة القتال، فإما النصر وإما الموت، وكلاهما خلود وإن أعقبه فناء. والحب أيضا عنده صِفْري النزعة؛ توحد بالمحبوبة، فيحقق شاعرنا الخلود بإزالة صفاته وإثبات صفات المحبوبة. هو إذا يحيا حين يموت كما يتغنى قيس بن الملوح: "أمـوت إذا شطّت وأحيـا إذا دنت وتبعث أحزاني الصبا ونسيمها." وينظر أبو العلاء المعرى إلى الفناء باعتباره بوابةً للخلود: "إنّ حزنا في ساعة الموت أضعافُ - سرور في ساعة الميلاد." وها هو أبو القاسم الشابي يبتهج بخلود الموت الذي هو انتصار عليه وعلى حتمية الزوال: "هـو الموت طيـف الخلـود الجميـل، ونصـف الحيـاة الـذي لا ينــوح." ويحتفي جبران خليل جبران بالموت باعتباره خلودا محققا: "خلّوني غارقا بين ذراعي الكرى، فقـد تعبت أجفاني مـن هـذه اليقظـة." ويتغنى السياب: "إن موتي انتصار"، كونه تجددا وبعثا؛ ويهلل أمل دنقل: "هل يموت الذي كان يحيا كأن الحياة أبد؟"؛ كما يستلهم محمود درويش الخلود والأمل من المقاومة الفلسطينية الصامدة: "ولم نزل نحيا كأن الموت يُخطئنا."
الفناء والخلود إذا فلك متصل لا ينقطع وصولاً إلى اكتمال وانغلاق الدائرة على نفسها، محققةً تصالحًا هو أصل الوجود اللامتناهي.
فالطريق إلى الخلود ملاذك يا صديقي، فتوجّه بيقين إليه. ولكن احذر، فالفناء يلاحقك بلا هوادة. فهل ترافقه؟