"أهل مصر" تخترق مسجد الروضة.. دماء في المحراب

40 كيلو مترًا، هي المسافة الفاصلة بين مدينة بئر العبد وقرية "الروضة" غرب العريش، "قرية الدم" التي داهمها الإرهاب الغاشم، الجمعة الماضية وقضى على سكانها، حيث يتراوح تعدادها 2400 نسمة وتسلل الإرهابيون إلى القرية الهادئة ليقضي على 305 شهيد بين شباب وكبار سن وأطفال.قبل أن تطأ أقدامنا إلى الطريق الدولي الذي يقسم القنطرة-العريش إلى نصفين، الذي يقع المسجد الكبير "الروضة" في الجزيرة الوسطى الفاصلة بين الاتجاه القادم من وإلى العريش، تلاحظ للوهلة الأولى التشديدات الأمنية المكثفة من رجال الجيش والشرطة البواسل.كل الطرق المؤدية إلى القرية كانت مؤمنة تمامًا من قوات الأمن، فالتفتيش الذاتي والكمائن المدججة بالجنود تراقب كل من يمر على الطريق المؤدي إلى سيناء، لمنع دخول أي شيء من شأنه تكرار كارثة "مسجد الروضة"، التي استشهد فيها 305 وأصيب 128 من الأهالي العزل على يد إرهابيين.كمين معدية القنطرة غرب، لم يخل من التشديدات الأمنية المكثفة، لتفتيش كل ما ظهر على سطح الأرض في السيارة والتدقيق في أقل التفاصيل، ولم يُسمح بالمرور إلى أي كمين، إلا من خلال فحص البطاقات والكشف عليها، لحين يتم السماح بركوب المعدية، التي تنقلنا إلى الشاطيء الشرقي لقناة السويس.الحادية عشر، يوم السبت، صبيحة يوم المجزرة التي نفذها إرهابيون، ساقنا القدر بأن تخترق "أهل مصر"، عدستها إلى قرية "الروضة" الواقعة غرب مدينة العريش بشمال سيناء، في محاولة للم ما تناثر من بقايا الشهداء.وحين عبرنا إلى مدينة بئر العبد، بدأ الخوف يزداد بداخلنا، وكانت المدينة هادئة لأمر يدعو إلى القلق، وعلى مدخل المدينة وسط درجة حرارة مرتفعة بإمكانها العصف بقواك العقلية يتراص العديد من أمناء الشرطة والضباط لمنع أي تسرب إرهابي محتمل وطمأنة زوار المدينة، حيث أن الطريق قبل الوصول إلى مدينة بئر العبد التي تبعد 40 كيلو عن قرية الروضة، يبعث في قلبك الرعب، ليس خوفًا من كثرة الكمائن ولا من جنودنا البواسل، لكن لتجنب الوقوع فريسة في "أيدي الإرهابيين".وبعد الوصول إلى مشارف "قرية الدم"، لاحظنا هدوءًا وذهول قاتل، ولم نسمع إلا أصوات الرمال تحت أقدمنا ليس لعدم وجود أحد، لكن لسيطرة الحزن الذي تخطي مرحلة الصمت التي تجسد لهيب الواقعة على نفوس ذوي الضحايا وكانت القرية كلها بنسائها وأطفالها ومَن تبقى من رجالها وشبابها لم تنم ليلة كاملة من إثر المجزرة.عند الشروع في الدخول إلى أحضان القرية التي روت أرضها بدماء الأبرياء من الشهداء تشعر في وجوه الأهالي، وجدنا ببكاء داخلي تكاد تسمع صوته لولا عزة النفس والشموخ التي يتميز بيها أهالي منطقة الروضة.الأهالي يسيرون تائهين من بشاعة الموقف وكأن لسان حالهم يقول: كيف حدث ذلك والجميع يترقب في حزن لما تبقى ما أثر الشهداء على سلالم المسجد الذي تناثرت كميات كبيرة من الدماء عليه لعل أحدهم يجد من بقايا فقيده حتى تبقى ذكرى للزمن.نظرات الأهالي، تشير إلى بقع الدماء والدمار الذي حل بالمسجد ومحيطه وريحة الدماء تفوح في الهواء الساخن الذي يأتيك من كل صوب وكأنك في أحد المجازر الكبيرة التي تزخ بالذبائح في موسم عيد الأضحى.عند اقترابك من الأهالي تخشى من سؤالهم حول ما حدث حتى لا أحد ينفجر في وجهك من كثرة الآنين والألم وما بداخلهم من حزن يكسو القرية وفور الدخول إلى المسجد، تلاحظ طبقات الدماء الكثيفة طمست ملامح السجاد حتى لا تتمكن من معرفة ما لونه القديم وتناثرت القطع البشرية هنا وهناك من أشلاء الضحايا، وتلاحظ وجود قطع صغيرة ليست بالقليلة من عظام الضحايا، وهو ما يدل على أن إطلاق النيران تم من مسافة قريبة.وعند الاقتراب من المنبر والمحراب تلاحظ تناثر آثار طلقات الرصاص على حوائط المسجد من الداخل، التي كان من الواضح أن كميات كبيرة منها أُطلقت على هذا المكان، وهو ما يؤكد أن الإرهابيين لم يرحموا أي من المصلين إلا ما قدر الله له الحياة بعد إصابته، بجانب وجود أعداد كبيرة من "الطاقية القشرة" البيضاء، التي يعتاد كثير من المسلمين ارتداءها على الرأس وقت صلاة الجمعة، وبقايا متعلقات الضحايا مازالت في أماكنها.ويشير أحد الأهالي على الباب الغربي للمسجد، وكانت معظم الدماء مركزة على أرضيته وأمامه داخل وخارج المسجد، وتلك الدماء من الواضح أنها لأناس تم قتلهم أمام الباب عند محاولتهم الهروب بعد إطلاق النيران عليهم بكثافة، حتى زجاج الفاترينات المسجد التي تحفظ كتاب الله مهشم تمامًا ولم يسلم من وابل الرصاص.وما يدعو إلى الحزن أمام أبواب المسجد الثلاثة هو كثرة الأحذية المغطاة بدماء أصحابها والتي يقف أمامها الأهالي في مشهد جنائزي لا يعلوه سوى الصمت الحزين الذي لا يستطيع تهدئته سوى النظر إلى السماء والأعين تأبى دمعة الانكسار من النزول وتكتفي بالنظر إلى خالقها ليعلم وحده ما في القلوب من حسرة.رغم التخوف من سؤال الأهالي المحيطين بالمسجد عن تفاصيل الجمعة الدامية، إلا أن أحد المشايخ، استوقفنا لكي يطلعنا عن تفاصيل الهجوم دون الإفصاح عن أي تفاصيل تتعلق بشخصيته سوى أنه من قبيلة السواركة.وبدأ حديثه في غضب شديد، قائلًا: الإرهابيون ألقوا قنابل يدوية على المصلين في مسجد الروضة أثناء صلاة الجمعة، ثم اقتحموا المسجد وأطلقوا الأعيرة النارية دون تفرقة. وخلال الحديث، التقط الحاج الستيني، الذى رفض ذكر أسمه في حديثه لـ"أهل مصر"، أطراف الحديث لكي يبوح بما في قلبة من آلم قائلًا: العناصر الإرهابية لن توقفنا عن مساندتنا للدولة في حربها ضد الإرهاب، مؤكدًا أن جميع أهالي القرية حاربوا في 1973 ضد الاحتلال الإسرائيلي، صفًا واحدًا مع القوات المسلحة.. لن نترك الإرهابيين وسنثأر لأرواح أهلنا.. "مش هسيبهم حتي لو كانوا تحت الأرض هنجيبهم وهنقتلهم"، بهذه الكلمات غير المرتبة أنهى حديثه وانصرف في هدوء.أحد المغلوبين على أمرهم، والذي فقد كل أقاربه في الحادث، اقترب إلينا وعينه يملأها الكلام، ودون استئذان أو ترتيب لمفرداته قال: "أنا فقدت كل أهلي في المسجد، ومتأكد أن الرئيس السيسي والجيش والشرطة هيجيبوا حق اللي ماتوا.

إقرأ أيضاً
WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً