"أهل مصر" تكشف مافيا السوق السوداء لـ"البنسلين".. سعر العبوة يبدأ من 98 جنيها.. وتسجيلات صوتية تفضح المتلاعبين بأوجاع المرضى "فيديو وصور"

قرابة الـ3 أشهر، والبنسلين طويل المفعول "فص ملح وداب"، فأخذ مرضى الحمى الروماتيزمية، يدقون أبواب الصيدليات الحكومية والخاصة، بحثًا عن حقنة بنسلين، للتخلص من الأوجاع التي أخذت تسير بجسدهم، فأصبح الآلم يتنقل من مفصل لآخر، ليتحول المريض إلى كهل غير قادر على الحركة، أما التركيز، فدخل علاقة عكسية مع نقص البنسلين بالجسد، كلما تأخر موعد الجرعة، زادت صعوبة الاستيعاب.

دفع ذلك الوضع المرضى نحو رحلة من الشقاء، فاخذوا يتنقلون من صيدلية لأخرى، ومن المستشفيات والمراكز الحكومية التابعة لوزارة الصحة إلى المستشفيات الخاصة، قاطعين مسافات طويلة، كانت قادرة على زيادة أوجاعهم، علهم يحصلون على مبتغاهم من حقنة "بنسلين" طويل المفعول، توقف الآلمهم.

وأمام تلك الماسأة والطوابير التي رصدتها "أهل مصر" على أبواب الصيدليات الحكومية والخاصة، من مرضى يحملون لافتات كانت قادرة على إظهار أوجاعهم، يطالبون الدولة بتوفير جرعات "البنسلين" لهم ولذويهم، قررنا أن نخوض تجربة المريض المصري الذي يبحث عن البنسلين.

على بعد خطوات من الجهة الشرقية لمحطة "المرج"، تستقر صيدلية محاطة بالأبواب الزجاجية التي لا تخفي الأرفف المليئة بأنواع مختلفة من الأدوية، دفعة صغيرة للباب قادت الأجراس المعلقة أعلاه للتحرك، فانتبه الصيدلي لوجودنا، تاركًا السيدة التي تتوسله إيجاد حقنة بنسلين واحدة لطفلها الذي يعاني من الحمى الروماتيزمية منذ 3 سنوات، ليطلب منا الانتظار، ويعود بنظراته الباردة إليها، قائلًا: "مفيش بنسلين يا حجة ريحي نفسك"، ليزداد كتامة وجه السيدة ذات العباءة السوداء، وتغادر الصيدلية دون تعليق على اختفاء الدواء.

تبدلت نظرات الصيدلي عندما وقعت علينا قائلًا بابتسامة "اتفضلوا"، لنبدأ نحن في طلب بنسلين مقابل السعر الذي يحدده الصيدلي، فكان الرد: "يا أساتذة البنسلين في صيدلية الإسعاف بالروشتة.. أنا معنديش".

- صيدلية في منطقة هادئة:

خرجنا من تلك الصيدلية دون تعليق، لنبحث عن صيدلية أخرى تستقر في الشوارع الهادئة بالمرج القديمة، أملًا في إيجاد بنسلين في إحدى الصيدليات التي تقع بين ثنايا المناطق قليلة السكان، وبالتالي يقل تردد المرضى عليها.

وفي إحدى الشوارع القريبة من قصر "الأميرة نعمة"، تستقر صيدلية، يظهر عليها علامات العجز، من طول سنوات عمرها، التي استطاعت أن تحول لون الصيدلية البيضاء إلى الأصفر الذي تتعلق العناكب بحوائطه، لنخطو داخل الصيدلية التي يجلس بها رجل يبدو عليه علامات الشيخوخة، يتمسك بنظاراته الطبية، محاولًا قراءة إحدى الجرائد اليومية.

- البنسلين مفقود:

رفع نظراته إلينا، واضعًا نظارته الطبية بعيدًا، لنطلب نحن عدة أدوية، من بينها البنسلين، لكسب ود وثقة الصيدلي، حتى لا يشعر أننا بحاجة للبنسلين فقط، فأخذ الصيدلي يتحرك بخفة بالصيدلية، لجمع الأدوية التي نرغب بها، ليقول في النهاية "جبت كل الأدوية لكن للأسف مفيش بنسلين وبيتصرف بروشتات من صيدلية الإسعاف"، بعد أن وقعت تلك الكلمات على مسامعنا، أخذنا نطلب منه منحنا علبة بنسلين بأي سعر يطلبه في حالة احتفاظه بواحدة، لكن نظرات الاستياء بدأت في الظهور على وجه الصيدلي، وقال: "مش موجود عندي والله يا آنسة ولو موجودة هدهالك على طول"، فغادرنا تاركين الأدوية الأخرى، مدعين أننا سنمر في وقتًا لاحق لأخذها.

من ضواحي المرج إلى شوارعها الضيقة، الذي استقرت فيها المنازل بالقرب من المحلات التجارية والصيدليات، بعيدًا عن غبار تركيب الأقفاص الخشبية، وورش تصليح السيارات، لكن الأطفال الذين يلهون بالكورة بالقرب من مسجد ومقام العارف بالله سيدى مصطفى الشريف الرفاعي، كانوا قادرين على خلق ضوضاء دفعت الشاب العشريني الجالس بالصيدلية الواقعة بالقرب من المقام للخروج، ليتعالى صياحته التي دفعت الأطفال للاختفاء.

أصوات الشاب العالية لفتت انتباهنا لوجود صيدلية تتوارى خلف المباني الشاهقة، فدفعنا باب الصيدلية بقوة الباحثين عن نجدة من كارثة، الهدوء يسيطر بالداخل، لا يشوبه إلا أصوات الرصاصات الصادرة من فيلم كان يتابعه الشاب والطفل الصغير الذي يأتي لإزالة الغبار عن الأدوية المتراصة بين الحين والآخر، فبادرته "من فضلك يا دكتور والدتي تعبانة جدًا ومحتاجة حقنة بنسلين من فضلك".

- محاولة توفير بنسلين دون التدخل بالسعر:

استمع الصيدلي لطلبنًا بكل تركيز، طالبًا مهلة من التفكير، ليقول بعد دقائق " هحاول أوفرها بنفس سعر السوق وبكرة تعالوا على العصر لو ملقتش هبعتكم لواحد حبيبي دكتور هيديكم بنسلين بس أنا مش عايز أظهر في الموضوع ومليش دعوة بالسعر لو كبير"، بدأت الفرحة تترك بصماتها على نبرة صوتنا بعد كلمات الصيدلي، واعدين إياه بالقدوم غدًا لسؤاله عن البنسلين كما وعدنا.

من الصيدلية التي يجلس بها الصيدلي الشاب إلى صيدلية أخرى تقع على بداية منطقة "عزبة النخل"، تشبه في تصميمها مكتبات بين السريات بالجيزة، لتكون يافطة مليئة بالأتربة هي الدليل الوحيد على أنها صيدلية.تتمتع الصيدلية بمساحة طولية يستقر الصيدلي الصغير على مكتب خشبي أسود بنهايتها، أما الأدوية فاستقرت على أرفف خشبية معلقة بكافة الحوائط، كانت الصيدلية خالية إلا من سيدة يبدو عليها علامات ضيق الحال، طالبة مسكن للرأس، انتظرنا خروجها لسؤال الصيدلي عن إمكانية توفير بنسلين.- التفكير في تزوير روشتة:

بعد جدل استمر أكثر من 10 دقائق، اقتنع الشاب بحاجة والدتنا الماسة لحقنة بنسلين، فأخذ يقترح علينا تزوير روشتة يمكن من خلالها الحصول على بنسلين طويل المفعول من صيدلية الإسعاف "ممكن أضربلك روشتة بس كلمني على بالليل أكون سألت الدكتور هينفع وإلا لا وبالروشتة روح أصرف من الإسعاف زي الباشا"،واعدًا إيانا بتوفير بديل البنسلين، الذي يعاني من نقص بالأسواق هو الآخر.

- إبتزاز المرضي:

استاذنا الصيدلي، مدعين عدم تذكرنا للدواء الذي نرغب في شرائه، وخطونا سريعًا خلف الفتاة، لنعرف تفاصيل الحوار الصغير الذي دار بالداخل، فقالت بنبرة حزن ممزوجة بعدم القدرة على التحرك: "أنا طلبت من الصيدلي بنسلين طويل المفعول، وهو قالي عندي بس اشتري مستحضرات تجميل وخدي البنسلين معاه، لكني رفضت عشان ممعيش فلوس".بعد أكثر من 5ساعات كاملة من البحث عن بنسلين طويل المفعول بالصيدليات الخاصة، انتهت رحلة البحث باليوم الأول، لنصبح على قائمة انتظار الحصول على البنسلين من السوق السوداء أو بدائله.- رحلة البحث باليوم الثاني:

بدأنا رحلة البحث باليوم التالي الذي صادف السبت السادس عشر من ديسمبر الجاري، لتكون الوجهة الأولى هي الصيدلية التي يجلس بها الشاب الذي أطلق وعودًا بتزوير روشتة. في تمام الثانية عشر ظهرًا، كانت أقدامنا تخطو داخل الصيدلية، التي لم يتغير بها شئ عن أمس سوى وجود صاحبها، الذي أخذ يتطلع إلينا بنظرات الشك.- الحصول على بديل البنسلين:

بعد الاستفسار عن وجود الصيدلي الصغير، ظهر من المخزن الذي يتوارى خلف ستائر بنهاية أرفف الأدوية، حاملًا علبة "ديبو-ين"، قائلًا: "كويس أنكم هنا.. علبة بديل البنسلين جبتها من الدكتور.. هو ناقص ومش موجود عند كل الصيدليات.. ده بيتاخد زي هدية لما بنجيب أدوية كتير من الشركات لكن فيه ناس بتستغله للتجارة وبتبيعه بـ50 جنيه.. لكن انتوا خدوه بـ9 جنيه".- بنسلين غير أصلي:

كان الشاب يحمل العديد من الروايات عن صناعة البنسلين، فقال بعد حديث زاد عن نص ساعة عن صناعة البنسلين: "عارفين البنسلين ده سهل يضرب ويتباع بمبالغ كبيرة ومحدش يعرف يفرق بينه وبين الأصلي كمان، لكن مش هقدر اقول إزاي والحمد لله أنا مش بعمل كده.. ربنا يبعدنا عن الحرام ويجعلنا دايمًا سبب في تخفيف وجع الناس".

اقتربت الساعة من الثالثة عصرًا، بينما فريق "أهل مصر" يقترب من صيدلية أخرى بذات المنطقة، تقع أمام محطة "عزبة النخل" مباشرةً، كالعادة الهدوء يسيطر على الصيدليات الخاصة التي تُعلم مرضى الحمى الروماتيزمية أنها لا تمتلك البنلسين وصيدلية الإسعاف وحدها القادرة على إنهاء أوجاعهم.دقات متتالية على باب الصيدلية الزجاجي، جذبت انتباه الشاب الجالس خلف شاشة "الكمبيوتر" يتصفح موقع التواصل الاجتماعي "فيس بوك" وسط إضاءة خافتة، يظهر منها علب الأدوية التي يغلب اللون الأبيض عليها. طرحنا السؤال المعتاد "محتاجين بنسلين ووالدتنا مريضة جدًا وهناخده منك بإي سعر تطلبه"، تاركين المجال ليرد الشاب الذي أخذ يفكر برهة في إجابته.- أسعار البنسلين في السوق السوداء:

لم تتعدى مدة التفكير 3 دقائق، ليرد الشاب الذي لم يبرح مقعدة أمام الكمبيوتر "بصوا ده رقمي الصيدلية 8 بالليل أكون اتصرفت في علبة، بس فيه واحد أسمع إنه بيبع سوق سوداء هبعتكم عنده وأنا مليش دخل بالسعر هناك".وتابع: ""أنا كان عندي بس خلصت، ده فيه ناس قالت أنها اشترتها بـ180 جنيه، لكن كلمني بالليل أكون اتصرفت ليكم في واحدة والسعر تقريبًا 98 أو 100 جنيه".

كانت الوجهة التي انهى بها الفريق رحلة بحثه عن البنسلين طويل المفعول بالصيدليات الخاصة، بالذهاب إلى الصيدلية القريبة من مسجد ومقام العارف بالله سيدى مصطفى الشريف الرفاعي، لسؤاله حول توفر البنسلين لديه كما وعدنا، كفيلة بالكشف عن الطرق غير المشروعة للحصول على البنسلين من صيدليات الإسعاف.باب الصيدلية الزجاجي، مفتوح على مصراعيه، بينما يجلس الصيدلي متفردًا يتناول كوبًا من "القرفة" التي يتصاعد منها الدخان الكثيف، توجه بنظراته إلينا فور دخولنا المفاجئ "ها يا دكتور لقيت البنسلين"، ليرد: "أنا كلمت الدكتورة اللي وقالت بإذن الله السبت هيكون معاكم وهي حنينة في السعر".

- توزير روشتة:بدأت ملامح الحزن تظهر على وجوهنا من طول مدة انتظار الحصول على البنسلين طويل المفعول، فحاول الصيدلي إيجاد حل آخر يمكنا من الحصول على العقار المحتفي "بصوا بقى أنا هبتعتكم عن دكتور أطفال تبعي، بروحله عشان روشتة إجازة أو دواء معين.. المهم هكلمه تروحوا العيادة تدفعوا 30 جنيه وتاخدوا روشتة مكتوب فيها إن والدتكم مريضة روماتيزم وبحاجة ضرورية لحقن بنسلين.. وأطلع على الإسعاف واستلم الدواء وخلي الحجة تتعالج"، بنبرة متحمسة وافقنا على حديث الصيدلي، قائلين: "هننتظر تليفونك ومتتأخرش علينا".- محاولة الوصول لعيادة الطبيب:

مرت 3 أيام ولم يتصل الصيدلي ليبلغنا بموعد الذهاب للطبيب، لنعاود الاتصال به في الرابعة من عصر أمس، لم يتذكر ما طلبناه منه في بداية المكالمة، لكن بعد دقائق، قفز في ذهنه مشاهد من لقاءنا السابق معه "أيون افتكرت هشرح ليكم الدكتور فين وأول لما تروحوا كلموني من عنده وأنا هظبط الموضوع"، لتنتهي المكالمة عند ذلك الحد، منتظرين موعد الطبيب الذي يفتح عيادته في السابعة مساءً يوميًا.أنها الخامسة، عدة اتصالات أجراها الصيدلي بنا للاطمئنان على ذهابنا للطبيب من عدمه، قائلًا: "متخافوش من حاجة إن شاء الله خير".بدأنا في التحرك في تمام السادسة، بعد ما يزيد عن نصف ساعة، كانت كفيلة بإنهاء طاقتنا داخل زحام مترو القاهرة الكبري، هبطنا بمحطة "حدائق الزيتون". أخذنا نجوب الشوارع بحثًا عن عنوان الطبيب الذي منحنا إياه الصيدلي.بعد ساعة من البحث في الشوارع التي تستقر بها محلات الملابس والمأكولات وسؤال المارة عن العيادة، استطعنا الوصول على أعاتبها، لكن قبل الدخول أخذنا ندق الهاتف على الصيدلي، لكنه لم يجيب، لنفاجئ باتصاله بعد ثواني معدودة قائلًا: "لما ترنوا هكنسل وأكلمكم عشان رصيدكم ميخلصش حرام كفايا تعبكم على البنسلين"، فأخذنا نتوجه بالشكر على معاملته الحسنة معنا، وانهينا المكالمة بعد أن طلب منا مهاتفته فور وصول الطبيب.بخطوات بطيئة أصبحنا داخل الشقة التي تستقر بها عيادة الطبيب، العيادة فارغة إلا من مريض واحد ومساعد الطبيب الذي أخذ يتابع مباراة كرة قدم بكل ما يملك من تركيز، بعد أن سمح لنا بالجلوس وانتظار الطبيب.- العيادة خالية:

لم تتمتع العيادة شبة الخالية من المرضى، بمساحة كبيرة، بضع كراسي سوداء متراصة بجانب بعضها البعض، يتخللها منضدة خشبية يستقر عليها التلفاز، بينما تتمسك لوحة قرآنية بإحدى الحوائط التي غلفت معظها بالخشب ذات اللون البني الفاتح، وفي نهاية العيادة أستقرت 3 غرف، اثنين للكشف والثالثة مغلقة.- محاولة الوصول لروشتة من خلال مساعد الطبيب:

عقارب الساعة تقترب من التاسعة مساءً، بنبرة حزن، طلبنا من مساعد الطبيب الاستفسار عن قدوم الطبيب من عدمه، لكنه أكد على قرب وصوله، في تلك اللحظة دق الهاتف ليظهر على شاشته اسم الصيدلي التي توجه إلينا بسؤال حول صول الطبيب فور الضغط على زر فتح المكالمة، لكن الرد "لسا موصلش وأحنا أتاخرنا جدًا.. لو أمكن تكلم المساعد وهو بيعمل الروشتة بدل الدكتور ونحاسبه نكون شاكرين جدًا لحضرتك"، ليجيب الصيدلي: "طيب هاتوا أكلمه".دقائق من الحديث بين الصيدلي ومساعد الطبيب، انتهت بعلامات الرضا على وجه المساعد، الذي نظر إلينا بعد إنتهائه من الحديث بالهاتف، قائلًا: "الطبيب سيصل قريبًا وأنا ساشرح له المسألة ثم ساسمح لكم بالدخول".عادونا الانتظار، لتمر 15 دقيقة، ويطل الطبيب بنظاراته الطبيبة وحقيبته ذات الجلد الأسود، ويدخل سريعًا لغرفة الكشف.بعد ما يقرب الدقيقتين، سمح المساعد للمريض الأول بالدخول، لكن 10 دقائق كانت كافية لإنهاء الكشف وظهور المريض خارج غرفة الكشف، التي دخلها المساعد فورًا.لم يستمر تواجد المساعد بغرفة الطبيب كثيرًا، فخرج يطالبنا بالدخول للطبيب.لم تخلو غرفة الطبيب التي غلب عليها اللون الأبيض، من مكتب تستقر عليه عدة أوراق طبية، وسرير للكشف يتوارى خلف ستائر بيضاء، في لحظة تاملنا للغرفة، طلب منا الطبيب الجلوس وشرح ما نريد.نظرات الطبيب لم تخلو من الشك، فأخذ يطرح علينا عدة أسئلة عن مرض والدتنا وعمرها واسمها بالكامل، بعد أن طلبنا منه روشتة بنسلين لصرف دواء والدتنا المريضة من صيدلية الإسعاف، مذكرين إياها بالعلاقة التي تربطنا بالصيدلي الذي أرسالنا له لأخذ الروشتة.بعد الإجابة على الأسئلة التي أصر الطبيب على سماع إجابتها عدة مرات منا، للتأكد من صحة المعلومات التي نقولها، طالبنا برؤية الدواء التي تتناوله والدتنا، لنقول أنه بنسلين، فطلب منا رؤيته للتأكد من أنه الدواء الصحيح.تذكرنا في تلك اللحظة صورة علبة البنلسين التي احتفظنا بها في استديو الصور الخاص بالهاتف، ففتحنا الهاتف وأخذنا نعبث بالصور إلى أن وجدنا صورة البنسلين، التي وقعت أعين الطبيب عليها في تلك اللحظة، وأشار بيده نحو الهاتف، طالبًا رؤية الصورة عن قرب.أعاد الطبيب الهاتف إلينا وأخذ يخطو بقلمه على الروشتة، التي أعطانا إياها فور إنتهائه "خلاص مكتوب فيها بنسلين نفس اللي في الصورة"، لتظهر بذلك ملامح السعادة المخلوطة بالأنتصار على وجوهنا.- سعر الروشتة المزورة:

بعد الحصول على الروشتة أخذنا نسأل الطبيب عن السعر الذي يرغب به، فقال: "خلو عنكم خالص.. هما 40 جنيه بس وادفعوا عند المساعد بره"، ليترك بعد تلك الكلمات كرسيه الجلدي الوثير ويصاحبنا للخارج؛ ليبلغ المساعد بالمبلغ المطلوب، الذي دفعناه، وسط كلمات الشكر التي انهالنا بها على الطبيب، مودعين إياه.- صيدلية الإسعاف:

في التاسعة من صباح اليوم التالي، توجهنا إلى صيدلية الإسعاف، لنأخذ دورنا بين ثنايا الطوابير التي استقرت أمام الصيدلية، حاملين "الروشتة" التي حصلنا عليها من الطبيب، عقارب الساعة تمر والطوابير لازالت ساكنة لم تبرح مكانها.الاجهاد بدأ يظهر على وجوه النساء والرجال الذين مر على وقوفهم أمام صيدلية الإسعاف، أكثر من 60 دقيقة، فبدأت الآلالم تهاجم أقدمهم. عشرات من المتواجدين لم تعد أقدامهم قادرة على حملهم، فأندفع البعض للجلوس على الأرصفة المجاورة للصيدلية، لكن أعينهم كانت كأعين الصقر، تراقب حركة الطابور بدقة.على الجانب الأيمن من الصيدلية، يستقر رصيف لم تعد ألوانه زاهية كالسابق، فحركة المارة تركت ملايين الجزيئات من الأتربة عليها، لكن تلك الأتربة لم تكن قادرة على منع سيدة من إلقاء جسدها المنهك بعد ما يقرب الساعتين من الوقوف أمام الصيدلية، أملًا في الحصول على البنسلين، على الرصيف، لتأتي فتاة تقاسمها الجلوس على ذات الرصيف، فننضم نحن للجلوس جانبهم.دقات هاتف بدأت تصدر من حقيبة الفتاة ذات العشرين عامًا، لتسرع هي في إخراجه ليأتيها صوت والدها، الذي يجلس بالمنزل غير قادر على الحركة، فتجيبه والدموع تجري على وجنتيها "أيوا يا بابا أنا مستنية الدور والروشتة في ايدي.. بإذن الله مش هرجع من غير البنسلين"، في تلك اللحظة تعالى صوت رجل يقف في الطابور يخبر الفتاة أن دورها قد حان، لتغلق الهاتف سريعًا واعدة والدها بمعاودة الاتصال، وتسير بخطوات سريعة نحو باب الصيدلية.دقائق وبدأت السيدة التي لم تبرح مكانها بالرصيف بالبكاء، ناظرة إلى الصيدلية بين لحظة وأخرى، موجهة حديثها إلينا "من 3 ساعات وأنا منتظرة دوري وسايبة ابني عنده سنتين في البيت مع أخته الصغيرة عشان أبوها بيتوجع من طول انتظار حقنة بنسلين وتعبت وخايفة أروح ملقيش البنسلين تاني"، لتقرر في تلك اللحظة النهوض من على الرصيف، نافضة التراب العالق بعباءتها السوداء، لتعود لاستعادة مكانها بالطابور مرة أخرى بعد أن قضت دقائق على الرصيف كانت قادرة على تسكين أوجاع قدمها.وعلى الرصيف الذي يحيط إحدى فتحات محطة مترو "جمال عبد الناصر" التي تقع أمام صيدلية الإسعاف، تقف سيدة بصحبة طفلها ذات الـ10 سنوات، تبحث بنظرها عن مكانًا يمكن أن يتواجد فيه "حمام" فطفلها لم يتوقف عن البكاء منذ نصف ساعة، طالبًا دخول "الحمام"، بعد أن وقف قرابة الساعتين يتمسك بيد والدته التي لم تبرح مكانها بالطابور، فأخذت تدق أبواب إحدى المطاعم القريبة، بعد أن طلبت من سيدة عدم السماح لغيرها بإخذ دورها في طابور الحصول على البنسلين طويل المفعول، داعية الله أن تحصل على الدواء سريعًا لتخفيف الأوجاع عن زوجها.في تلك اللحظة خرج شاب من باب الصيدلية، ملامح الفرحة تظهر على وجه، بينما تقبض أصابع يده على علبه البنسلين التي حصل عليها بعد انتظار 4 ساعات في الطابور، ليخرج الهاتف من حقيبته السوداء الصغيرة التي تتشبث بكتفه الأيمن ويهاتف والده "يا بابا أنا الحمد لله جبت البنسلين وجايلك في الطريقة.. اخيرًا هتخف يا بابا بعد عذاب أسبوع".في لحظة مرور الشاب الذي نجح في الحصول على بنسلين لوالده، للشارع المقابل للصدلية، كان هناك آخر يضع الهاتف على أذنيه، طالبًا من صاحب التاكسي الذي يعمل لديه أن يمنحه إجازة "أنا النهاردة بحاول أجيب البنسلين لزوجتي.. أرجوك عايزه إجازة وبكرة من الفجر هتلاقيني تحت البيت بأخد مفاتيح التاكسي وهشتغل عليه لتاني يوم بس سيبني النهاردة عشان مراتي بتتوجع"، لكن ملامح وجهه التي ظهرت عليها حبات العرق فجأة، عكست رفض صاحب التاكسي لطلبه، ليضع الهاتف بجيبه ويكمل خطواته إلى الصيدلية.- الحصول على البديل:

قرابة الـ3 ساعات، ونحن لازالنا في انتظار الحصول على البنسلين، لتمر 5 دقائق ويأتي دورنا "لو سمحت دي روشتة الدواء الخاص بوالدتي عايز بنسلين"، أخذ الصيدلي الذي يقف خلف الحاجز الزجاجي ينظر بدقة للروشتة الموضوعة أمامه، ليدير جسده النحيف ناحية أرفف الدواء، ويحضر 2 من "ديبو-ين"، لنتسأل نحن عن البنسلين الذي يحمل اللون الأصفر، فيرد الصيدلي بلغة صارمة: "ده اللي عندنا البنسلين التاني ناقص هتاخده خده ولو مش عايزه سيبه"، لنقرر نحن أخذ بديل البنسلين في صمت ونرحل.- نشاط الحمى الروماتيزمية يضر الكلى والمفاصل:التأخر في الحصول على جرعة البنسلين طويل المفعول، تؤثر على الجسم بصورة سلبية، فيقول الدكتور طارق البحيري، استشاري الأمراض الباطنية، إن عدم وصول مفعول البنسلين في مواعيده التي اعتاد الجسم أن يحصل عليه فيها، تؤدي إلى نشاط الحمى الروماتيزمية، التي ينتج عنها تأثير على القلب والكلى والمفاصل.وأضاف في تصريح خاص لـ"أهل مصر" أنه ليس أمام مرضى الحمى الروماتيزمية بديل طبي عن البنسلين طويل المفعول، موضحًا أن المريض يمكن أن يستخدم " اوسبن" كجرعة يومية، بدلًا من البنسلين، لكنها غير متوفرة في الأسواق هي الأخرى.- غسيل الأسنان يقتل التلوث المسبب للحمى الروماتيزمية: في السياق ذاته، يقول الأستاذ الدكتور محمد نصر، أستاذ طب وجراحة أمراض القلب بالمعهد القومي للقلب، إن الأطفال الذين تتراوح أعمارها من 5 أعوام إلى 18 عام، المصابين بالحمى الروماتيزمية يحصلون على جرعة بنسلين طويل المدى كل 21 يوم.وأضاف في تصريح خاص لـ"أهل مصر" أن الأطفال يمكن أن يستبدلوا البنسلين طويل المفعول بقرص "أوسبن 1000" التي يجب تناولها يوميًا بعد وجبة الأفطار، موضحًا أن غسيل الأطفال للأسنان في الصباح وقبل النوم، يساعد على قتل الحمى الروماتيزمية التي تأتي نتيجة تلوث الحلق والفم والأسنان.- احتكار الأدوية جريمة مكتملة الأركان "شرعية وقانونية وأخلاقية":أكد علماء الأزهر الشريف، حرمة احتكار الدواء ومنع المرضى من الحصول عليه، فقال الدكتور عبدالحليم منصور، أستاذ الفقة المقارن ووكيل كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر، أن احتكار الأدوية ومنع صوله للمرضى، يمثل جريمة شرعية وقانونية وأخلاقية، موضحًا أن من يفعل ذلك يضر بالمرضى والمسلمين، مستشهدًا بحديث النبي "صلى الله عليه وسلم"، عن المحتكرين في قوله "لا ضرر ولا ضرار "، و" مَنْ ضَارَّ مُسْلِمًا ضَارَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ شَاقَّ مُسْلِمًا شَقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ".وأضاف في تصريح خاص لـ"أهل مصر" أن القرآن الكريم لم يغفل عن تلك القضية، فقال الله تعالى " وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا"، وذلك ينطق على الجريمة الشرعية.وأكد أستاذ الفقة المقارن ووكيل كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر، أن احتكار الدواء يقود عدد من المرضى للموت، وتلك تعد قضية قتل، والقتل من الناحية القانونية والشرعية في تلك الحالة على المحتكر أن تقع عليه عقوبة "القتل العمد"، مستشهدًا بقول الله تعالى " وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ"وأوضح أن القرآن الكريم يتوعد من يؤذون المؤمنين بالعذاب الآليم في الأخرة، مؤكدًا أن الدولة يجب أن تتدخل لإنهاء تلك الجريمة.

إقرأ أيضاً
WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً
عاجل
عاجل
غزيرة تؤدي لـ تجمعات المياه.. التنمية المحلية تحذر من سقوط الأمطار على المحافظات