مرضى الإيدز يبوحون بأسرارهم.. "مصطفى": خطيبتي سابتني قبل شهر من الجواز.. و"أحمد": المجتمع اعتبرنا جرثومة وده قدر ربنا

دونما مقدمات أجبروا على السير بـ«شريطة سوداء» والحديث بتشويش صوتى، والظهور فقط فى غُرف مُظلمة، فامتدت الظلمة لحياتهم، حُرموا من النُور بأمر من المجتمع، لا سبيل لهم سوى الهروب بعد معاناتهم من كثرة الطرق على أبواب الجميع فلم يجدوا سوى الرفض والتسويف، هم باختصار «مرضى الإيدز» أو «المصابون بالإيدز» إن صح التعبير.

نظرة الدولة السلبية، واحتقار المجتمع، والاحساس بالنبذ والعزل، دفعت ضحايا نقص المناعة للوقوف عند حافة حدود الاحتمال الانساني، وقرر عدد منهم التخلص من حياته المصبوغة بالإهانة والذل والعار، كان آخر هؤلاء سيدة بولاق الدكرور التي انتحرت قفزا من شرفة منزلها بعدما أجبرها الأهالي على ترك منزلها والمنطقة كلها، بعد معرفتهم بإصابتها بالإيدز الذي انتقل لها دون علمها، فيما ينتظر آخرون نفس المصير.

يتدثر بوجهِ لا يفارقه الابتسامات، تُشرق الشمس من عينيه وليس السماء، مُتقدًا بأحلامِ تسع الأرض، يجلس بين رفاقه يتسامر ويتحدث بخططه المستقبلية.

توغل مرض «الإيدز» في جسده وسكنه منذُ 7 أعوام، وأدرك ذلك عندما ذهب لإجراء بعض التحاليل الطبية للسفر إلى الخارج.يسترسل «أحمد» فى الحديث عن مرضه الذى يهزمه دومًا بعينيه الكحيلتين اللتين يعانقهما الرضا والقبول ويقول: «أنا بصراحة اللحظة دى متتنسيش، لما عرفت إنى عندى الإيدز اتصدمت، كل حاجة لثوانِ حسيتها بلون واحد (اللون الأسود)، ما بين حالة مواجهة وهروب، إنت مش عاوز تفكر..لاء، إنتَ مش قادر تفكر».

يصمتُ الشاب لثوانِ قبل أن يعود لأحلامه المبعثرة: «كنت عاوز أسافر برا، ولما عملت تحاليل ثبت إنى مصاب بمرض نقص المناعة (الإيدز)، روحت لإخواتى البنات حكتلهم، كان فى عيونهم حيرة وصدمة، مشاعر مختلطة، بس هما وقفوا جنبى مع ووالدتى».

رُبما تحاول ذاكرته الهروب مما فعله أخوه الأكبر وزوجته، يتظاهر بالنسيان، ولكنهم تركوا له جُرحًا لا يشفى ولا يُضمد منذُ 7 أعوام حتى الآن، يقول بصوتِ مهزوز يستجمع قواه: «أخويا ومراته عيرونى بمرضى، راحوا يلفوا بكل شارع، وكل باب حوالينا (أحمد) عنده الإيدز محدش يكلمه ولا يتعامل معاه واتهمونى إنه جالى عن طريق علاقة (غير شرعية) وسيبت البيت وحاليًا عايش لوحدى».

يرى «أحمد» أن المرض لا يقتل أحدا بل المُجتمع هو من يقتله بسكينِ باردة، بتصنيفه له بأنه بات «وصمة عار»، ممنوع اللمس والاقتراب، فالجميع بالدولة تكاتف على قتل «مريض الإيدز» دون أن يشعر، من خلال الإعلام الذى يتاجر بالمرض، تارة، وأماكن العمل التى تقفل أبوابها بالمرصاد أمامهم تارة أخرى.

يقاوم أحمد ليبتسم «أول حاجة هعملها لما أخف إنى أهاجر من هنا فورًا، المجتمع هنا بشع، عشان تعيش بمصر لازم تكون كداب.. كداب كبير لازم تتجمل طول الوقت عشان تقدر تعيش، ههرب لأى مكان مبيعتبرش مريض الإيدز عار».واختتم حديثه ومازالت لمعة المُقل بعينيه ولكنها لا تنطفئ: «أنا بحب فيروز على فكرة جدًا وبحب أربى القطط وبعشق شعر نزار قبانى، أنا نسيت إنى مريض، على قد الإيدز ما هو (مرض) صعب على قد ما بعتبره حاجة حلوة ربنا بعتهالى».

ـــ ياسين: "أول ما عرفت اسودت الدنيا فى وشي"

يبدوُ لك شخصا هادئا ولكنه كان المشاكس الأكبر، يسترسل الحديث عن إصابته بالمرض وبين كلمة وأخرى يُلقى بدُعابة تُميتك من الضحك، تشعر بأنك تسمع حواديت «أبلة فضيلة»، لا تشعر بانك تجلس مع مريض على الإطلاق الذى تعكسه مرآة المجتمع بصورة مُظلمة ومأساوية، ليؤكد أن المرض الحقيقى يسكن عقول المجتمع وليس أجساد المرضى.

ياسين مُصطفى، ذو العشرين عاما، أصيب بفيرس «C»، ورافقه طيلة عشر سنوات، استمر فى تناول العلاج حتى وصل للحظة الموعودة، فذهب لإعادة بعض التحاليل مرة أخرى ليفاجئه الطبيب بخبرِ سار بأنه تم شفاؤه من إصابته بفيرس «C» بشكل نهائى، لكن كان للقدر حُكم آخر، فلم تكتمل فرحة «ياسين» التى وأدها خبر آخر وهو إصابته بفيرس نقص المناعة «الإيدز».

«أنا مصدقتهمش كنت متفاجئا.. إزاى بس! روحت لأكتر من مكان أعمل تحاليل واللي كانت بتأكد إصابتى بالمرض».. هكذا استقبل ياسين الأمر وقال «اسودت الدنيا فى وجهي، أول حاجة جات فى بالى إنى هموت خلاص، عرفت أختى وهى ساعدتنى، بس فضلت مخبى على والدتى شهور، كل شهر بيعدى عليا بموت أكتر، أول ما عينى بتيجى فى عينها بيبقى نفسى أقولها.. بس خايف».

وعاود «ياسين» الضحك وقال: «جيت صحيت بيوم قولت لأمى .. بقولك إيه لو أنا عندى مرض الإيدز.. إهدى كده ولو مُت اشربى نعناع بس ومتزعليش عليا دا قضاء ربنا، كانت هتتجنن مش مصدقة، بس أمى عقلها كبير ودعمتنى فى مرحلة العلاج».

وتابع «بعد 3 سنين من إصابتى بدأت أماثل نسبة الشفا، كُنت خاطب واحدة بشكل (صالونات) وخبيت عليها، فضلت معاها سنة ونص وقبل الجواز بشهر واحد قولتلها، فى البداية صدمت ولكن هى تقبلت الأمر لكن أهلها رفضوا الموضوع ووقفوا قدامنا وهى استسلمت لهم».

الشاب ياسين يرى أنه لا يشعر بأنه مريض على الإطلاق، ينطلق فى إعداد مشاريعه وأحلامه، التى بَنى لها منذُ زمن، يُكون أسرة صغيرة تكون له الملاذ ومنبع الإلهام، فالقوة تبدأ من داخلك وليس من الآخرين، إنتَ صاحب القرار فى أن تتجاوز هذه المحن أم تقف على اعتابها حتى تسقط بالهاوية، فالله يخلق أحيانًا المعاناة حتى تظهر السعادة من خلال نقيضها.

ــ أنا مبسوط بمرضى

«محمد»، ذو بشرة قمحية، يجلس بصمتِ يُتابع بعينيه فقط أحاديث الآخرين، يودُ الحديث تارة ويتردد تارة أخرى، فرُبما باتت أى وسيلة إعلامية له مصدرا للتشهير والتجارة – التى بات ناقمًا عليها- تدور أفكار برأسه ويدور حولها، فيحتفظ بكلامه بداخله من جديد ويغرق فى صمته.

بدأ الشاب الأسمر يسرد تفاصيل لحظة اكتشاف مرضه «لحظة مكنش فيها نقطة نور واحدة، متاهة غرقت، انعزلت، جسمى تلج من كمية الأفكار اللي كانت بتموتنى أكتر من فكرة إنى مريض.. (هموت) كانت بترن فى ودنى صداها كان ليل نهار مبيروحش».

وتابع: «حكيت لوالدتى فقالت لى إزاى تدارى علينا لازم نشيل معاك وجعك ومرضك وكل لحظة بحياتك هتشيل لوحدك دا إزاى، كانوا أكبر دعم ليا، وخرجونى من الدائرة اللي كانت هتموتنى».

واستكمل: «كنت شخص انطوائى مبتكلمش كتير علاقاتى الاجتماعية محدودة، مبعرفش ألف فى شارع واحد بمصر».

بدأ «محمد» يترك الحرج جانبًا، واندمج فى الحديث بحماسِ مُتقد: «أنا مبسوط بـ(محمد) بتاع دلوقت مش بتاع زمان، بقيت مؤثر أكتر بقيت ودوُد واجتماعى، نشاطاتى الاجتماعية زادت وبقيت أقود فرق للمتعايشين مع مرض الإيدز وأديهم الأمل فى إنهم يكملوا علاجهم، أنا دلوقتى مستمتع بحياتى جدًا».

وتطرق «محمد» للحديث عن أزمة الدواء ليوضح أن وزارة الصحة شكلت لجنة لصرف الدواء، ولا يعرفون سببا لذلك حتى الآن، وهذا تسبب في تأخر صرفه للمرضى الجُدد، وبات هناك توجس وخوف دائم لمريض الإيدز بأن الدواء يُمكن أن يتوقف في أى وقت، لأن أعداد المرضى تتزايد بمعدل ضخم وإن استنكرت وزارة الصحة تلك الأعداد.

فالتمييز ضد الأشخاص المصابين بفيروس نقص المناعة البشرية لايزال مستمراً، ومُعاناة «مرضى الإيدز»، لم تكن يومًا معاناة من المرض الذى يسكن أجسادهم بل المرض الذى عشش بعقول المواطنين والدولة ومؤسساتها، فقد صنعوا من أفكارهم الموبوءة سجنًا كبيرًا واسعًا مُعتما وألقوهم فيه، أقمعوهم بين جدرانِ أربعة، كأنهم وصمة عار أو خطيئة.

ـــ «ماما أمينة».. شىء من الرحمة والحنان للمرضى

وسط الحديث على تلك المائدة الصغيرة التى كان يتبادل فيها الشباب حكى قصصهم ومواقفهم بفخرِ وقوة، أقدمت امرأة تبدو فى العقد الرابع من عُمرها إلى جلسة الحوار، ليستقبلها الشباب بصوتِ واحد «ماما أمينة جات أهى».

«أمينة العجمى»، رئيس مجلس إدارة جمعية «صحتى من بيئتى» لرعاية مرضى الإيدز، خاضت مجال رعاية «مرضى الإيدز» من خلال منظمات المجتمع المدنى حتى أسست تلك الجمعية التي يجتمع العديد من شباب المتعايشين مع مرض نقص المناعة «الإيدز» داخل ذلك المكان الصغير تحتضنهم، تشاركهم آلامهم ليلًا ونهارًا، يتسامرون ويمارسون أنشطتهم وهواياتهم المُفضلة، يتشابكون بأيدى بعضهم لمواجهة عُقم تفكير مجتمعى وليس المرض فقط.

تطرقت «أمينة» للحديث حول معاناة مرضى الإيدز من تجاهل الدولة فتقول بملامح يبدو عليها الإنهاك: أصعب حالات هى مرضى الإيدز لـ(الأطفال)، لتقص حكاياتِ مؤلمة عنهم: «فى ولد كان عنده الايدز أول ما عرفوا المدرسة بأكملها طلعت تجرى خارج السور وفضل هو قاعد فى مكانه، وبعد كدا رفض المدرسون وجوده مع أصحابه فى الفصل».

تمتطى شفتيها بألمِ، لا تنبسُ بحرفِ.. وتعاود الحديث بامتعاض: الدولة مكسوفة تتكلم عن مرضى الإيدز، هى الأساس فى نشر فكرة إن الإيدز بيجى عن طرق غير شرعية بس، طيب الستات المتجوزين بيصابوا إزاى، والأطفال بالمرض؟.

تقول مؤسسة الجمعية إن علاج مرض الإيدز يبدأ بعلاج الدولة والمجتمع لعقولها أولاً، بان يعترفوا بأن هذا المرض مثل أى مرض يصاب به أى إنسان، بأن يكفوا عن غلق الأبواب بوجوههم وتشويه صورتهم فيجبرونهم على أن يظلوا فى العتمة، يخشون بقعة نور، تُجبرهم على الكذب والهروب لا المواجهة.

وأكدت «العجمى» بأن الكارثة أن مريض الإيدز إذا كان بحاجة لعملية جراحية لا تقبله أى مستشفى، فيموت على أبوابها، ليس هناك أدنى أزمة ولكن لا يمكن الاقتراب من مريض الإيدز.

وذكرت إحدى الحالات التى استنجدت بها منذُ أسبوعين فكانت على وشك الولادة وهى مصابة بالايدز، بعد معاناة كُبرى وضعت الأم طفلتها، وسرعان ما هرولت الممرضات مُسرعين خارج الغُرفة.

وتصف قسوة تلك اللحظة: الدور الذى تقبع فى إحدى حُجراته المريضة انتشر فيه خبر إصابتها بالايدز، ساخرة «فمن يقترب سيلفظ أنفاسه فورًا»، ترفض الممرضات الدخول لتضميد الجرح أو تعليق الكانيولا فيلوحون من بعيد لأحد أقاربها ليقوم باللازم.

«الدولة مًصابة بـ(الانفصام)، لا يعترفون بمرضى الإيدز أو بتزايد أعدادهم لتوفيرالحملات التوعوية، فقد حذفوا من قائمة حساباتهم».. هكذا قالت في حدة، وتابعت: «لا يوجد أدنى دعم للجمعيات التى ترعى المتعايشين، كثيرًا ما تطلب وزارة الصحة منى، بأن ابتعد عن مرضى الايدز، وفي كل مؤتمر هناك جُملة واحدة تتردد: «احمدوا ربنا انكم بتاخدوا علاج».

وأكدت أنه تم تشكيل لجنة لصرف الدواء ولا نعرف حتى الآن ما هو السبب الخفى، فالمرضى الجُدد يجدون صعوبة فى الحصول على الدواء ومنهم من يلفظ أنفاسه الأخيرة بعد طرق أبواب الوزارة بحثًا عن علبة دواء، حسب قولها.

ـــ الصحة: «مش هندي تصريحات لحد وممنوع الكلام عن الإيدز»

أصدرت شهر سبتمبر الماضى، منظمة الصحة العالمية «WHO»، تقريرًا يوضح بعض الأرقام بالنسبة لمرض الايدز في العالم، حيث أكد البيان أن ما يقرب من 30% من المصابين بفيروس نقص المناعة البشرية لايزالون غير مدركين لحالة فيروس نقص المناعة البشرية.

ووفقا لآخر الإحصائيات فإن ما يقارب 35.3 مليون شخص يعيشون مع فيروس نقص المناعة البشرية على الصعيد العالمي، بالإضافة إلى ما يقرب من 17.2 مليون من الرجال، 16.8 مليون من النساء و3.4 مليون أقل من 15 سنة.

ووفقًا لنتائج أحدث الدراسات العلمية، أن النسبة الأكبر للعدوى في بلدان الشرق الأوسط، خاصة في بلاد شمال افريقيا.

محاولات عدة خاضتها «أهل مصر» للتواصل مع الدكتور خالد مجاهد المتحدث باسم وزارة الصحة حول تلك المٌشكلات، لكنه رفض التواصل بشكل قطعى.

لم يقف عند هذا الحد، بل طالبنا بالحديث إلى الدكتور وليد كمال مدير البرنامج الوطنى لمكافحة الإيدز، والذى رفض الحديث مُعقبًا بأنه غير مسموح له الحديث سوى بتصريح رسمى من الوزارة.

تقدمنا بطلب رسمى إلى المكتب الإعلامى لوزير الصحة، لإجراء حوار حول أزمة مرضى الإيدز، والذى تم رفضه بشكل صريح، وقال مدير مكتب الدكتور مجاهد: مش هندى تصريحات لحد وممنوع الكلام عن الايدز.

وبسؤاله إلى أى جهة نلجأ لها للحديث عن مشاكل هذا المرض، كان الرد «دكتور وليد كمال مدير البرنامج الوطنى لمكافحة الايدز، ممنوع من الحديث حتى ولو فى تصريح بردوا ممنوع يتكلم عن المرض، دكتور خالد قال قفلوا على الموضوع دا خالص وممنوع الكلام فيه».

وزارة الصحة أكدت فى بيان سابق، أن مصر تعتبر دولة ذات معدل منخفض جدا لانتشار مرض الايدز، موضحة أن عدد المصابين التراكمى من عام 1986 وحتى نوفمبر من العام الجارى 10 آلاف و550 مصابا، بنسبة 0.01% من المصابين بالفيروس على مستوى العالم.

وأضافت الوزارة أن من بين المرضى 82% من الرجال، و18% من السيدات، مشيرة الى أن 75% من المصابين تتراوح أعمارهم ما بين 15 و50 عاما.

نقلا عن العد الورقي.

إقرأ أيضاً
WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً