اعلان

قاهرة المعز.. تاريخ آيل للسقوط.. الدراسات: منازل كثيرة مهددة بالانهيار.. وحارة المقاصيص تغرق فى الصرف الصحى (صور)

مع اقتراب خطواتك نحو «قاهرة المعز» تنتشر رائحة التاريخ الهارب من بين ثنايا الأخشاب والأحجار التي شيد بها القائد جوهر الصقلي عاصمة دولة الفاطميين منذ ما يزيد على ألف عام، لتشدك إلى شوارعها المزينة بلافتات تحمل أسماء لا تقل عراقة عن المباني المتشابكة ببعضها البعض، تحكي فصلًا من تاريخ مصر، الذي اتحدت يد الإهمال مع عدة دراسات حول آثار المعز، في سبيل تحطيمه، تحت بند «مبانٍ مهددة بالانهيار».

في السابع من يوليو عام 969، وضع جوهر الصقلي أساس القاعدة الفاطمية الجديدة، التي تحولت سريعًا إلى مجموعة من المساجد والأبواب الضخمة مثل باب الخلق وباب النصر وباب زويلة، لتتزين المدينة في هيئة مدينة عسكرية تشتمل على مساكن الأمراء ودواوين الحكومة وخزائن المال، ليطل عام 973 وتتحول المدينة إلى عاصمة الدولة الفاطمية، بمجرد انتقال المعز لدين الـله من المغرب إليها، مطلقًا عليها «قاهرة المعز».

ذاكرة العم نيشان

على أعتاب حارة «المقاصيص» الواقعة في بداية شارع المعز لدين الـله الفاطمي، تظهر لافتة تتشابك بمنزل متهالك من دورين، الغبار استطاع أن يخفى ما تحمله من كلمات، لكن مع تدقيق النظر، تتضح العشرة أحرف التي اختزلت تاريخ واحد من ساكني المعز «نيشان الساعاتي»، الذي يرقد وسط مئات الساعات العريقة، في غرفة صغيرة بالدور الثاني.

عقار من دورين، احتضن كل منهما غرفة صغيرة، السلالم دائرية لا تمتلك مساحة حولها، في إعلان صريح منها لرفض أصحاب الوزن الثقيل، لكن من اعتاد الجلوس في ذلك المنزل الذي تفوح رائحة التراب التاريخي من أبواب غرفه، أصبح جسده أكثر مرونة مع حركة السلالم الصغيرة المرهقة، فيقول الخواجة نيشان: «أنا في الأوضة دي من 60 سنة، تقريبًا عمري كله في المعز، لكن أصلي من أرمينيا والسلالم اتعودت عليها من وأنا شاب».

في غرفة يغلب عليها اللون الأصفر الغامق، تستقر العديد من صور الساعات القديمة، على حوائطها الأربعة، بينما يتوارى الخواجة نيشان خلف مكتب خشبي مليء بقطع الساعات المفككة، لا يظهر منه سوى يده التي تعبث في قلب إحدى الساعات الضخمة في محاولة لإصلاحها «المعز ده قلب القاهرة لا يمكن تتعوض بس اللي قاعد جواه زهقان منه من الورش والدوشة والإهمال، إنما اللي برا بيجي ساعة أو اثنين يتفرج وينبهر ويمشي».

قاهرة المعز تتداعى

ذكرت عدة دراسات اختصت في فحص المنازل في عدة محافظات مصرية، أن قاهرة المعز، ضمن لائحة المنازل المتهالكة القابلة للانهيار، وتصدر حصر وزارة الإسكان منذ 3 سنوات، للمنازل المهددة بالانهيار، تلك الدراسات، لتحتل القاهرة المركز الأول، نظرًا لاحتياج 40% من أحيائها إلى التجديد، لتأتي أحياء «الأزبكية والمناصرة وباب الشعرية والمحمدى وفم الخليج ومصر القديمة»، التي يعد شارع المعز لدين اللـه الفاطمي جزءًا لا يتجرأ منها.

لم تكن تلك الإحصائية مرحبا بها عندما وقعت كلماتها على مسامع نيشان، لتظهر آثار الانفعال على وجهه، وتتحول نبرة صوته الهادئة التي تشبه هدير البحر، إلى أمواج عاتية، قائلًا لـ«أهل مصر» بصرامة «مباني وبيوت إيه اللي تقع، القاهرة الفاطمية اللي المعز من ضمنها امتن وأقوى كتير من المباني الجديدة اللي كل يوم والتاني تقع، كله من إهمال الحكومة للصرف وترميم المنازل التاريخية هما السبب».

حارة الدهب

من حارة المقاصيص إلى قلب شارع المعز، حيث تراصت المشغولات الذهبية في محلات وصل إيجار أقلهم مساحة إلى 8 آلاف جنيه شهريًا، بينما يستقر الباعة الصغار في خيام مزينة، تحتضن المئات من قطع الإكسسوار التي تحاكي التاريخ الفرعوني، وبجانب ذلك وذاك ترقد محلات بيع النحاس المشكلة، كالأواني وأدوات القهوة.

قبل عدة أشهر، وقع حريق في أحد المباني المطلة نوافذها على المعز لدين الـله الفاطمي، لتأتي عربات المطافئ ذات العجلات الضخمة، التي تركت آثار هزة لا تذكر في الورش التي تحيط بالمبنى المحترق، لمحاولة إخماد الحريق. مر ما يزيد على 48 ساعة والنيران مازالت تلتهم البضائع في المبنى الذي يتكون من الخشب والحجارة القديمة، فيحاكي المولات المتواجدة بالأماكن الراقية، لكن في هيئة تاريخية، لينتهي به الحال محطما على الأرض، تاركًا أسرا لا تملك مصدر رزق إلا محلاتها المحترقة، تلك هي المشاهد التي مازالت تدور في ذهن الشاب العشريني، رضا السيد: «لسا فاكر كل حاجة حصلت وقتها، وإن المحل بتاعي مهدد بالانهيار عشان المبني اللي وراه غالبًا مدة وهيقع عليا».

في محل لا يزيد على متر في متر، أخذ «رضا» بكل ما يملك من نشاط ينظف المشغولات النحاسية، فلا يتركها إلا بعد أن يرى انعكاس صورته في كل قطعة منها، ليذهب بخطوات سريعة ويستقر على كرسي بلاستيكي أمام محله الصغير، الذي يرقد أسفل عقار شبه منهار «المحل فوقيه بلكونة بيت، والحجارة اللي في البلكونة كتير منها مكسور يعني في أي لحظة هتقع من غير إنذار.. هقول إيه غير ربنا يستر عشان أنا شغال هنا من 5 سنوات ومقدرش أبعد عن المنطقة لو فيها موتي لكن مباني المعز متينة دي تعيش مية سنة كمان قدام»- طبقًا لروايته لـ«أهل مصر».

من رضا الذي يجلس يوميًا في انتظار الزبائن لإيجاد رزقه، إلى الشوارع التي تعد شرايين متفرقة من قلب المعز، وتحديدًا على أعتاب حارة الصالحية، إحدى الحارات التي تفصلها أحد الأبواب الفاطمية الضخمة عن المعز لدين اللـه الفاطمي، حيث يستقر عقار مكون من 3 أدوار، مغطى بالأشجار الخضراء التي تنمو على الحوائط، التي تشقق أغلبها.

على أبواب المنزل تجري المياه إلى الشارع، لإعلان ساعة التنظيف للبواب، بينما تغلق كل أسرة باب شقتها على نفسها.

يتكون المنزل الذي تساقطت إحدى درجات سلالمه من 6 شقق، مقسمة إلى شقتين بكل دور، لكن الدور الأول والأخير مهجوران من السكان، الذين فضلوا العيش خارج حدود القاهرة الفاطمية، بحثًا عن الأمان، بعيدًا عن منازل تشكو إهمال الصرف الصحي.

التاريخ يغرق فى الصرف الصحى

«الصرف الصحي معظم الوقت بايظ، وده بيأثر على حجارة البيت وبيضعفه»- بتلك الكلمات بدأ متولي أحمد، الرجل الستيني الذي يقيم بالدور الثاني، يروي الإهمال الذي يدفعه يوميًا لترك المنزل، بحثًا عن منطقة ذات خدمات راقية، لكنه يفشل نظرًا لارتفاع الأسعار المتواصل.

منذ ما يزيد على 80 عامًا، تزوج والد متولي، من جارته التي كانت تماثله في العمر، ليستقر به الحال بعد الزواج في غرفة بشقة والده ذات المساحة الواسعة.

مرت الشهور التي لحقت الأعوام بأطرافها، وحملت الشقة أجيالا مختلفة، لتحمل ذاكرة متولي كل ما مر على المنزل، فيقول: «البيت هنا من مجرد بيت حجارة وخشب ضخم.. رغم التشققات والحيطان اللي أغلبها بيقع قطع صغيرة منها إلا أن قاهرة المعز لا يمكن تعوضها، مهما حصل مش هينفع نسيبها احنا بس بنطلب من الحكومة تخدم المنطقة وتنظفها عشان مفيش اهتمام غير بشارع المعز، إنما غير كده مهمل من صرف صحي وترميم أجزاء من بيوت».

يستقر أسفل المنزل، الذي يتكون سقفه من الخشب العريض المتماسك، لكنه غير قادر على مواجهة الأمطار التي تركت آثارها على حوائط الدور الأخير، الرجل السبعيني، مصطفى عبدالخالق، الذي ترك منزله بقاهرة المعز، تاركًا تاريخا هدمه الإهمال، وأخذ يجوب شوارع القاهرة بحثًا عن سكن مناسب، لكن محل بيع الموازين، الخاص به، لايزال يرقد بذات المنطقة «أكل عيشي هنا.. مقدرش أسيب شغلي في المعز، الناس هنا كلها أسرة واحدة».

لم يختلف غضب عبدالخالق الذي ينهك نظره القابع خلف نظارات مقعرة في قراءة الجرائد اليومية بتمعن، من الدراسة التي أكدت قرب انهيار أجزاء كبيرة من القاهرة الفاطمية عن الغضب الذي ظهر على وجه الخواجة نيشان، ليشرد ذهنه قليلًا، ناظرًا إلى قطعة الأرض التي كانت يومًا ما عدة محلات لكنها سقطت بفعل الإهمال، قائلًا: «صحيح فيه إهمال في رعاية البيوت هنا في المعز، وكمان ترميم المتهالك منها لو كان هينفع يستمر أو استبداله بمباني حديثة، تشبه طراز المنطقة التاريخية، مكنتش دراسة زي دي قالت كده على تاريخ مصر».

وتابع: «بس الناس هنا معظمهم لا يمكن يصدق أن البيوت ممكن تقع، وفعلًا البيوت هنا شديدة رغم كل حاجة مرت عليها، الناس اللي بنتها كان عندها أمانة وضمير مش زي اللي بيحصل النهاردة من غش وسرقة والنتيجة بيوت بتقع وناس بتموت».

هنا حارة المسط

من المنزل الذي يرقد الرجل الكهل أسفله، إلى حارة المسط، التي تشبه في تصميمها حارات المسلسلات القديمة كالتي تحاكي تاريخ «تحية كاريوكا» وغيرها من الفنانات القدامى، المنازل الصغيرة التي لا يتعدى أحدها الثلاثة أدوار، تتشابك مع بعضها البعض، بينما يتخلل واجهتهم القطع الخشبية والحديدية الضخمة، التي تساند تلك المنازل على الصمود، مانعة إياها من الانهيار، بعد تآكل جدرانها، وخوف سكانها الموت المحقق، فيقول سليم: «أنا ساكن في أول بيت، من كام سنة الحي جه شبك البيوت اللي قدام بعضها بأعمدة خشبية وحديد عشان كانت هتقع، ومن وقتها واحنا خايفيين تقع علينا».

واستفاض: «أنا لما بشوف البيت اللي اتربيب وكبرت فيه بيحصله كده بعيط يوميًا.. يعني عشان مش هاين عليهم يصرفوا فلوس على ترميم البيوت التاريخية دي، بيموتوا أصحابها ويقتلوا تاريخ بقاله أكتر من ألف سنة.. والله ده حرام غيرنا يتمنى يكون عنده الآثار اللي عندنا في الوقت اللي بنهد احنا تاريخنا».

وفي الوقت الذي يقر فيه الشاب العشريني سليم قرب انهيار منزله، هناك من لايزال يتمسك بتاريخ قاهرة المعز، رافضًا تصديق تلك الدراسات التي أكدت قرب انهيار المباني التاريخية.

نقلا عن العدد الورقي.

إقرأ أيضاً
WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً