وسط الخضراوات والفاكهة التي تتصارع روائحها لتجذب المارين، وتدفعهم للشراء، تجلس "إيمان أحمد" التي يفصلها عام واحد عن سن الأربعين، في أحد شوارع "مصر الجديدة"، تحمل بين يديها حبات البازلاء ذات اللون الأخضر المغطى بقطرات المياه؛ استعدادًا لبيعها إلى السيدات التي ترغبن في تحضير الطعام لأزواجهن دون شقاء.
منذ عشرة أعوام، خرجت "إيمان" التي لم يتعد تعليمها دبلوم تجارة، من محافظة الشرقية، في رحلة إلى القاهرة، بحثًا عن مكان تستقر به لبيع الخضروات والفواكه، بعد بحث دام ٧ ساعات في أسواق مصر الجديدة والمطرية والحلمية ومدينة نصر، استقرت في منطقة مصر الجديدة، بعد أن تلقت نصيحة من إحدى البائعات في السوق اليومي بالمنطقة "مصر الجديدة الستات فيها حلوين في المعاملة وكمان محدش هيتخانق معاكي أنك قاعدة في مكان بالشارع"، كان ذلك هو الحوار القصير الذي دار بين إيمان والبائعة، حسبما وصفت هي لـ"أهل مصر".
في الواحدة بعد منتصف الليل، تستقل "إيمان" السيارة النصف نقل، التي تنقلها من بيتها بنهاية محافظة الشرقية إلى القاهرة كغيرها من البائعات، فتستقر هي على كرسي حديدي مغطى بالقليل من الجلد، بينما تعلق الخضراوات بكافة أنواعها والفواكه بحبال فوق السيارة، فتروي "الكرسي في العربية بيخليني أعيط من وجع ضهري عشان بسند على الحديد، لمدة ساعتين، مع مطبات الطريق في الضلمة ولما بوصل ولاد الحلال بينزلوا البضاعة وأنا بفرشها على الأرض وأقعد جنبها".
رزقت إيمان بـ4 أبناء من زوجها "عبدالصبور"، الذي رغم سنوات عمره الـ50، فإنه بلا عمل منذ 11 عام، بعد استغناء الشركة الخاصة التي كان يعمل بها عنه، تحت بند "عمالة زائدة"، فأصبح عاطل لقرابة العام دون معاش: "اضطريت أنزل القاهرة أبيع عشان نصرف على الأولاد عندي واحدة في جامعة والثانية في الثانوية العامة علمي علوم وولدين في ابتدائي، وجوزي بقى يشتغل على عربية نقل من 5 سنوات"- حسبما ذكرت.
عند دقات الخامسة فجرًا، تبدأ "إيمان" في وضع الفاكهة بأنواعها المختلفة والخضروات على الرصيف المستقر أسفل إحدى العقارات، فتصف ما تفعله منذ الصباح إلى المساء: "الفجر بكون وصلت بصلي في مسجد قريب وبفرش البضاعة فيه اللي بتشتري زبدة وفيه اللي بتكون موصية على محشي، وعلى 7 الصبح الستات بتوصيني على طلباتها وهي رايحة الشغل أو بتودي الأطفال المدرسة، وعلى المغرب العربية تعدي عليا عشان أرجع واللي فاض من البضاعة بأخدها معايا، أهم من الشغل اني أحافظ على صلاتي في المسجد والعشاء بصليها في البيت".
رغم العجز الذي ظهر على كفيها والتشققات التي تغزو أصابعها، إلا أن أعينها مازالت تحمل نقاء اللون العسلي، أما عن ثيابها، فعباءة سوداء يستقر أعلاها خمار ينافسها في السواد، فتقول وأصابعها تتشابك ببعضهم البعض؛ بحثًا عن الدفئ "أنا بتلج من البرد طول اليوم وقاعدة على الأرض لكن أكل العيش مش بالساهل ولأزم أنا وجوزي نستحمل عشان العيال".
في تمام التاسعة من مساء كل يوم، تكون "إيمان" تخطو داخل منزلها، بينما أبنائها يحاول كل منهم الانتهاء من واجباتهم اليومية، فتسارع هي في إعداد الطعام، ومن ثم النوم "أنا بنام 3 ساعات يوميًا فقط، عشان بصحى 12 بالليل، أعدي على جيراني اللي يديني بطاطس واللي بصل واللي فاكهة عشان عندهم أرض فكله بيسترزق".
تصل تكلفة الخضروات والفاكهة التي تحصل عليها "إيمان" من المزارعين حولها إلى 2000 جنيه يوميًا، لكن التسديد على فترات، فتقول:"محدش بيأخد فلوس غير لما برجع بالليل وأوقات كمان بيكون فاضل فلوس عليا وبيصبروا عشان كلنا أهل في بعض وأهل الخير في بلدنا كتير وفيه اللي بيعطف عليا ويديني فلوس لله".
أكثر من 50 كيلو تحملهم "إيمان" في رحلتها للقاهرة "أنا جالي الغضروف بسبب الوزن اللي بشيله يوميًا من البيت لحد العربية ده غير إني مش بقعد خالص، والشغل 12 ساعة، والنوم 3 ساعات، والطريق 9 ساعات، ولازم أعمل عملية في ضهري عشان معرضة يجيلي شلل، لكن رغم كل حاجة ربنا لطيف بعباده وأنا واثقة أنه هيفرحني قريب"، حسبما وصفت.
رغم فقدانها الراحة وتعليمها المتوسط، إلا أنها على قناعة كاملة بحقوق المرأة، فتقول: "أنا تعليمي ضعيف فعلًا لكن حاولت أشوف شغل ولما فشلت لجأت لبيع الخضار والفاكهة في الشارع، وبناتي عمري ما هعذبهم زيي كده، مفيش واحدة فيهم هتتجوز إلا لما ياخدوا شهادة جامعية وكمان أنا رفضت تمامًا ختان بناتي من الآخر كده، الست بتقاسي طول حياتها كفايا اللي بيحصل فيها كمان اخليهم يتعذبوا ويخافوا وهما صغيرين كده.. (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)".