يتمتع الزعيم المصري "جمال عبد ناصر" بعد رحيله بسنوات طويلة بحب الشعب المصري والعربي وتأييده بالرغم من غيابه عن الوجود بيننا، واليوم الخامس عشر من يناير تحل ذكرى ميلاد "عبد الناصر" المئوية، ولهذا نرصدج في السطور التالية نص الخطاب الوحيد الذي طل به على شعب مصر فرفضه كل الفئات، مما إضطره للتراجع عنه، وهو خطاب "التنحي" عن الحكم في مصر، والذي كان في التاسع من حيزران عام 1967.
أيها الأخوة،
لقد تعودنا معاً في أوقات النصر وفي أوقات المحنة، في الساعات الحلوة وفي الساعات المرة، أن نجلس معاً، وأن نتحدث بقلوب مفتوحة، وأن نتصارح بالحقائق مؤمنين أنه عن هذا الطريق وحده نستطيع دائماً أن نجد اتجاهنا السليم مهما كانت الظروف عصيبة ومهما كان الضوء خافتاً.
ولا نستطيع أن نخفي على أنفسها أننا واجهنا نكسة خطيرة خلال الأيام الأخيرة. لكني واثق أننا جميعاً نستطيع، وفي مدة قصيرة، أن نجتاز موقفنا الصعب وإن كنا نحتاج في ذلك إلى كثير من الصبر والحكمة والشجاعة الأدبية، ومقدرة العمل المتفانية.
لكننا أيها الأخوة نحتاج قبل ذلك إلى نظرة على ما وقع لكي نتتبع التطورات وخط سيرها في وصولها إلى ما وصلت إليه.
إننا نعرف جميعاً كيف بدأت الأزمة في الشرق الأوسط في النصف الأول من مايو الماضي.
كانت هناك خطة من العدو لغزو سوريا وكانت تصريحات ساسته وقادته العسكريين كلها تقول بذلك صراحة. وكانت الأدلة متوافرة على وجود التدبير.
كانت مصادر إخواننا السوريين قاطعة في ذلك. وكانت معلوماتنا الوثيقة تؤكده، بل وقام أصدقاؤنا في الاتحاد السوفيتي بإخطار الوفد البرلماني الذي كان يزور موسكو في مطلع الشهر الماضي بأن هناك قصداً مبيتاً ضد سوريا.
ولقد وجدنا واجباً عليناً أن لا نقبل ذلك ساكنين، وفضلاً عن أن ذلك واجب الأخوة العربية، فهو أيضاً واجب الأمن الوطني. فإن البادئ بسوريا سوف يثني بمصر.
ولقد تحركت قواتنا المسلحة إلى حدودنا بكفاءة شهد بها العدو قبل الصديق. وتداعت من إثر ذلك خطوات عديدة منها انسحاب قوات الطوارئ الدولية، ثم عودة قواتنا إلى موقع شرم الشيخ المتحكم في مضايق تيران والتي كان العدو الإسرائيلي يستعملها كأثر من آثار العدوان الثلاثي الذي وقع علينا سنة 1956.
ولقد كان مرور علم العدو أمام قواتنا أمراً لا يحتمل، فضلاً عن دواع أخرى تتصل بأعز أماني الأمة العربية.
ولقد كانت الحسابات الدقيقة لقوة العدو تظهر أمامنا أن قواتنا المسلحة بما بلغته من مستوى في المعدات وفي التدريب قادرة على رده وعلى ردعه، وكنا ندرك أن احتمال الصراع بالقوة المسلحة قائم، وقبلنا بالمخاطرة.
وكانت أمامنا عوامل عديدة وطنية وعربية ودولية، بينها رسالة من الرئيس الأمريكي ليندون جونسون سلمت إلى سفيرنا في واشنطن يوم 26 مايو تطلب إلينا ضبط النفس وأن لا نكون البادئين بإطلاق النار، وإلا فإننا سوف نواجه نتائج خطيرة.
وفي نفس الليلة فإن السفير السوفيتي طلب مقابلتي بصفة عاجلة في الساعة الثالثة والنصف من بعد منتصف الليل، وأبلغني بطلب ملح من الحكومة السوفيتية أن لا نكون البادئين بإطلاق النار.
وفي صباح الاثنين الماضي، الخامس من يونيه، جاءت ضربة العدو. وإذا كنا نقول الآن بأنها جاءت بأكثر مما توقعناه، فلابد أن نقول في نفس الوقت وبثقة أكيدة أنها جاءت بأكبر مما يملكه، مما أوضح منذ اللحظة الأولى أن هناك قوى أخرى وراء العدو جاءت لتصفي حساباتها مع حركة القومية العربية.
ولقد كانت هناك مفاجآت تلفت النظر:
أولها: أن العدو الذي كنا نتوقعه من الشرق ومن الشمال جاء من الغرب، الأمر الذي يقطع بأن هناك تسهيلات تفوق مقدرته وتتعدى المدى المحسوب لقوته قد أعطيت له.
وثانياً: فإن العدو غطى في وقت واحد جميع المطارات العسكرية والمدنية في الجمهورية العربية المتحدة. ومعنى ذلك أنه كان يعتمد على قوة أخرى غير قوته العادية لحماية أجوائه من أي رد فعل من جانبنا، كما أنه كان يترك بقية الجبهات العربية لمعاونات أخرى استطاع أن يحصل عليها.
وثالثاً: فإن الدلائل واضحة على وجود تواطؤ استعماري معه، يحاول أن يستفيد من عبرة التواطؤ المكشوف السابق سنة 1956، فيغطي نفسه هذه المرة بلؤم وخبث.
ومع ذلك فالثابت الآن أن حاملات طائرات أمريكية وبريطانية كانت بقرب شواطئ العدو تساعد مجهوده الحربي، كما أن طائرات بريطانية أغارت في وضح النهار على بعض المواقع في الجبهة السورية وفي الجبهة المصرية، إلى جانب قيام عدد من الطائرات الأمريكية بعمليات الاستطلاع فوق بعض مواقعنا.
ولقد كانت النتيجة المحققة لذلك أن قواتنا البرية التي كانت تحارب أكثر المعارك عنفاً وبسالة في الصحراء المكشوفة، وجدت نفسها في الموقف الصعب، لأن الغطاء الجوي فوقها لم يكن كافياً إزاء تفوق حاسم في القوى الجوية المعادية، بحيث إنه يمكن القول بغير أن يكون في ذلك أي أثر للانفعال أو المبالغة أن العدو كان يعمل بقوة جوية تزيد ثلاث مرات عن قوته العادية.
ولقد كان هذا هو ما واجهته أيضاً قوات الجيش العربي الأردني التي قاتلت معركة باسلة بقيادة الملك حسين، الذي أقول للحق وللأمانة أنه اتخذ موقفاً ممتازاً، واعترف بأن قلبي كان ينزف دماً وأن أتابع معارك جيشه العربي الباسل في القدس وغيرها من مواقع الضفة الغربية في ليلة حشد فيها العدو قواه المتآمرة ما لا يقل عن أربعمائة طائرة للعمل فوق الجبهة الأردنية.
ولقد كانت هناك جهود رائعة وشريفة.
لقد أعطى الشعب الجزائري وقائده الكبير هواري بومدين بغير تحفظات وبغير حساب للمعركة.
وأعطى شعب العراق، وقائده المخلص عبد الرحمن عارف، بغير تحفظات وبغير حساب للمعركة.
وقاتل الجيش السوري قتالاً بطولياً، معززاً بقوى الشعب السوري العظيم وبقيادة حكومته الوطنية.
واتخذت شعوب وحكومات السودان والكويت واليمن ولبنان وتونس والمغرب مواقف مشرفة.
ووقفت شعوب الأمة العربية جميعاً، بغير استثناء، على طول امتداد الوطن العربي موقف الرجولة والعزة، موقف التصميم، موقف الإصرار على أن الحق العربي لن يضيع ولن يهون،و أن الحرب دفاعاً عنه ممتدة مهما كانت التضحيات والنكسات على طريق النصر الحتمي الأكيد.
وكانت هناك أمم عظيمة، خارج العالم العربي، قدمت لنا ما لا يمكن تقديره من تأييدها المعنوي.
لكن المؤامرة، ولابد أن نقول ذلك بشجاعة الرجال، كانت أكبر وأعتى.
ولقد كان تركيز العدو الأساسي على الجبهة المصرية، التي دفع عليها بكل قوته الرئيسية من المدرعات والمشاة، معززة بتفوق جوي رسمت لكم من قبل صورة لأبعاده.
ولم تكن طبيعة الصحراء تسمح بدفاع كامل، خصوصاً مع التفوق المعادي في الجو.
ولقد أدركت أن تطور المعركة المسلحة قد لا يكون مواتياً لنا. وحاولت مع غيري أن نستخدم كل مصادرنا القوة العربية.
ولقد دخل البترول العربي ليؤدي دوره. ودخلت قناة السويس لتؤدي دورها.
وما زال هناك دور كبير مطلوب من العمل العربي العام، وكلي ثقة في أنه سوف يستطيع أداءه.
ولقد اضطرت قواتنا المسلحة في سيناء إلى إخلاء خط الدفاع الأول، وحاربت معارك رهيبة بالدبابات والطائرات على خط الدفاع الثاني.
ثم استجبنا لقرار وقف إطلاق النار أمام تأكيدات وردت في مشروع القرار السوفيتي الأخير المقدم إلى مجلس الأمن، وأمام تصريحات فرنسية بأن أحداً لا يستطيع تحقيق أي توسع إقليمي على أساس العدوان الأخير، وأمام رأي عام دولي، خصوصاً في آسيا وأفريقيا، يرى موقفنا ويشعر ببشاعة قوى السيطرة العالمية التي انقضت علينا.
وأمامنا الآن عدة مهام عاجلة:
المهمة الأولى: أن نزيل آثار هذا العدوان علينا، وأن نقف مع الأمة العربية موقف الصلابة والصمود. وبرغم النكسة فإن الأمة العربية بكل طاقاتها وإمكانياتها قادرة على أن تصر على إزالة آثار العدوان.
المهمة الثانية: أن ندرك درس النكسة. وهناك في هذا الصدد ثلاث حقائق حيوية:
1. أن القضاء على الاستعمار في العالم العربي يترك إسرائيل بقواها الذاتية. ومهما كانت الظروف، ومهما طال المدى، فإن القوى الذاتية العربية أكبر وأقدر على الفعل.
2. أن إعادة توجيه المصالح العربية في خدمة الحق العربي ضمان أولي. فإن الأسطول الأمريكي السادس كان يتحرك ببترول عربي، وهناك قواعد عربية وضعت قسراً وبرغم إرادة الشعوب في خدمة العدوان.
3. أن الأمر الآن يقتضي كلمة موحدة تسمع من الأمة العربية كلها، وذلك ضمان لا بديل له في هذه الظروف.
نصل الآن إلى نقطة هامة في هذه المكاشفة بسؤال أنفسنا:
هل معنى ذلك أننا لا نتحمل مسئولية تبعات هذه النكسة؟
وأقول لكم بصدق، وبرغم أية عوامل أكون قد بنيت عليها موقفي في الأزمة، فإنني على استعداد لتحمل المسئولية كلها.
ولقد اتخذت قراراً أريدكم جميعاً أن تساعدوني عليه.
لقد قررت أن أتنحى تماماً ونهائياً عن أي منصب رسمي وأي دور سياسي، وأن أعود إلى صفوف الجماهير أؤدي واجبي معها كأي مواطن آخر.
إن قوى الاستعمار تتصور أن جمال عبد الناصر هو عدوها، وأريد أن يكون واضحاً أمامهم أنها الأمة العربية كلها وليس جمال عبدالناصر.
والقوى المعادية لحركة القومية العربية تحاول تصويرها دائماً بأنها إمبراطورية لعبد الناصر، وليس ذلك صحيحاً لأن أمل الوحدة العربية بدأ قبل جمال عبد الناصر، وسوف يبقى بعد جمال عبدالناصر.
ولقد كنت أقول لكم دائماً أن الأمة هي الباقية، وأن أي فرد مهما كان دوره ومهما بلغ إسهامه في قضايا وطنه هو أداة لإرادة شعبية وليس هو صانع هذه الإرادة الشعبية.
وتطبيقاً لنص المادة 110 من الدستور المؤقت الصادر في شهر مارس سنة 1964، فلقد كلفت زميلي وصديقي وأخي زكريا محيي الدين بأن يتولى منصب رئيس الجمهورية وأن يعمل بالنصوص الدستورية المقررة.
وبعد هذا القرار فإنني أضع كل ما عندي تحت طلبه وفي خدمة الظروف الخطيرة التي يجتازها شعبنا.
إنني بذلك لا أصفي الثورة، ولكن الثورة ليست حكراً على جيل واحد من الثوار. وإني لأعتز بإسهام هذا الجيل من الثوار.
لقد حقق جلاء الاستعمار البريطاني وحقق استقلال مصر وحدد شخصيتها العربية وحارب سياسة مناطق النفوذ في العالم العربي، وقاد الثورة الاجتماعية وأحدث تحولاً عميقاً في الواقع المصري. وأكد تحقيق سيطرة الشعب على موارد ثروته وعلى ناتج العمل الوطني واسترد قنال السويس ووضع أسس الانطلاق الصناعي في مصر وبنى السد العالي ليفرش الخضرة الخصبة على الصحراء المجدبة، ومد شبكات الكهرباء المحركة فوق وادي النيل الشمالي كله وفجر موارد البترول بعد انتظار طويل، وأهم من ذلك وضع على قيادة العمل السياسي تحالف قوى الشعب العاملة الذي هو المصدر الدائم لقيادات متجددة تحمل أعلام النضال الوطني والقومي مرحلة بعد مرحلة وتبني الاشتراكية وتحقق وتنتصر.
إن ثقتي غير محدودة بهذا التحالف للعمل الوطني، للفلاحين والعمال والجنود والمثقفين والرأسمالية الوطنية، إن وحدته وتماسكه والتفاعل الخلاق داخل إطار هذه الوحدة قادر على أن يضع بالعمل، وبالعمل الجاد وبالعمل الشاق، كما قل أكثر من مرة معجزات ضخمة في هذا البلد ليكون قوة لنفسه ولأمته العربية، ولحركة الثورة الوطنية، وللسلام العالمي القائم على العدل.
إن التضحيات التي بذلها شعبنا وروحه المتوقدة خلال فترة الأزمة والبطولات المجيدة التي كتبها الضباط والجنود من قواتنا المسلحة بدمائهم سوف تبقى شعلة ضوء لا تنطفئ في تاريخنا وإلهاماً عظيماً للمستقبل وآماله الكبار.
لقد كان الشعب رائعاً كعادته – أصيلاً كطبيعته – مؤمنا صادقاً مخلصاً. وكان أفراد قواتنا المسلحة نموذجا مشرفاً للإنسان العربي في كل زمان ومكان.
لقد دافعوا عن حبات الرمال في الصحراء إلى آخر قطرة من دمهم وكانوا في الجو – وبرغم التفوق المعادي – أساطير للبذل وللفداء وللإقدام والاندفاع الشريف إلى أداء الواجب أنبل ما يكون أداؤه.
إن هذه ساعة للعمل وليست ساعة للحزن، إنه موقف للمثل العليا وليس لأية أنانيات أو مشاعر فردية.
إن قلبي كله معكم. وأريد أن تكون قلوبكم كلها معي.
وليكن الله معنا جميعاً أملاً في قلوبنا وضياءً وهدى.