فى أحد شوارع القاهرة، المدينة التى تحمل صفة لا يلتفت إليها إلا من ناله من اسمها نصيب وقهره الزمن، وأثقلته العاصمة بمزيد من القهر والعِوز والحاجة، لتخلق منه إنسانا زاهدا رغم أنفه.
فى الشارع الكائن بمدينة نصر، رصيف يقع بالقرب من مكتب الشعر العقاري، اختارته "الحاجة تهانى" ليكون مقرا لعملها.. تجلس السيدة العجوز وتضع أمامها كمية من الخضروات لبيعها، منذ ثلاثين عاما وهى تبيع وتبحث عن الرزق والخلاص من دوامة الاحتياج والفقر الذى يحاصرها، والأمل فى أن يكون الغد أفضل، والقادم أقل وطأة حتى لو ظل الرصيف هو رفيقها.
ثلاثون عاما فى نفس المكان، كان الزمن ينحت أثره على وجهها وجسدها ببطئ مؤلم وبدقة حادة يرسم خطوطه، ويضع بصماته ويحول الوجه إلى لوحة حائرة يتوه المتأمل فى تفاصيلها، ظل يأكل منها ويسلبها كل يوم جزءا من القوة والشباب والصحة، حتى أفقدها إحدى عينيها، ربما فى ذلك رحمة، فعين واحدة تخفف عنها وطأة وبشاعة ماتراه بكلتا عينيها.
تجلس "تهاني" التي تخطت حاجز السبعين، بردائها الأسود الذي يخفي جلباب متهالك أسفله، على إحدى الأرصفة التي تبعد خطوات عن مكتب الشهر العقاري بالحي السابع مدينة نصر، تستقر في يدها اليسرى زجاجة من الماء، بحركة اعتادت عليها منذ 30 عامًا، أخذت تنثر قطرات الماء بغزارة على "الخس- الفجل- البصل الأخضر- البقدونس"؛ أملًا في إبقائهم على نضارتهم.
شعاع الشمس الذهبي، دائمًا ما يداعب أعين "تهاني" منذ السابعة صباحًا إلى الثانية ظهرًا، لكن عينها اليمني فقدت قدرتها على الرؤية "عيني اليمين خلاص مبقتش قادرة افتحها بس مضطرة أقعد في المكان ده عشان الزباين عرفتني من زمن ولو غيرت مكاني المكسب هيقل فبستحمل الشمس"- حسبما وصفت لـ"أهل مصر".
أصوات الباعة الجائلين، صياح الأطفال وأقدامهم تتقاذف كرة القدم، الزحام المتواصل أمام الشهر العقاري، أصحاب الملابس الفاخرة المصطفين لتناول الطعام على عربة الفول الشعبية، دائمًا ما تخطف "تهاني" من ذكرياتها مع زوجها التي لا تفارقها، فتروي: "جوزي توفى من 7 سنوات وأنا عايشة لوحدى في شبرا من وقت ما اتجوزت، كان مالي حياتي لكن بعد موته أنا وحيدة ومكسورة، بحاول أشغل نفسي بمشاكل الناس والكلام في الشارع والبياعين".
كلمات متقطعة في الحديث أصبحت هي لسان حال "تهاني" التي تساقطت أسنانها واحدة تلو الآخرى، فتقول: "أنا كبرت في السن ومبقتش أقدر أعافر مع الزباين في الأسعار ولا حتى اتكلم مع اللي حواليا، لكن ربنا مبينساش حد ومحدش بياخد الشباب طول العمر".
بعد أكثر من 9 ساعات من العمل المتواصل، لا يتعدى مكسب "تهانى" الـ30 جنيهًا فى اليوم الواحد، فتجلس في منزلها تبكي بين ظلمات الليل، فأبنائها الـ8 بحاجة إلى من ينفق عليهم من وقتًا لآخر، فتصف حالها والدموع تتقاذف من أعينها بحثًا عن الحرية: "معايا 7 بنات متجوزين من تعبي وشغلي وجهازهم كان على قد الحال ولسا بسدد في مصاريف جوازهم، ومن وقت للتاني بشتري لبس لأولادهم وكمان خضار من السوق".
بعدما نسجت الهموم خيوطها حول "الحاجة تهانى" وغرز الزمن مخالبه فى جسدها، اخترق صدرها وصولا إلى القلب، ليخبرها الطبيب أنها بحاجة عاجلة لعملية قلب مفتوح، لتقول: ""عندي مشكلة في القلب وهعمل عملية قلب مفتوح على حساب الدولة بس منتظرة دوري بعد 3 شهور، ده غير السكر اللي مبهدل جسمي، والأدوية بشتريها بـ400 جنيه شهريًا ووزارة الصحة مش بتصرف ليا علاج مجاني".