تخطو الفتيات التي تحمل كفوفهن أحدث الهواتف، من مسجدًا لآخر؛ بشارع المعز لدين الله، تسيطر على أفواههن ضحكة لا تختلف كثيرًا عن ابتسامة "هوليود" التي عصفت بعقول الفتيات العام الماضي؛ استعدادًا لاصطياد صورة تخلد ذكراهم في حضرة القاهرة الفاطمية، لكن شاشة الهاتف التي عكست ما وقع فريسة أمام الكاميرا المصوبة على باب مسجد ومدرسة الظاهر برقوق، رسمت وجهًا لإمرأة، مغمضة الأعين، ترقد جانبها مكنسة يدوية متساقطة شعيراتها الخشنة، أما جسدها فاختبأ في ملابس عاملات النظافة.بحذائها الأزرق ذو الحبال البيضاء التي استقرت عليها الأتربة، وبذلة تشبه في لونها القهوة الفرنسية، ارخت "مبروكة" جسدها الذي لم يذق رفاهية الراحة منذ الثامنة صباحًا، باحثة عن السكينة بعيدًا عن أكواب المشروبات الساخنة الملقاة على أرض المعز الصلبة؛ فتقول لـ"أهل مصر" بنبرة صوتها الذي لم يعد يجد مساره فارغًا بعد أن أصابه غزو من برودة الشتاء: "بشتغل عاملة نظافة 12 ساعة مقابل 700 جنيه ونفسي يزيدوا والله الحياة بقت صعبة".في إحدى منازل الدرب الأحمر الذي لا يختلف تاريخه كثيرًا عن تاريخ شارع المعز، تقطن "مبروكة" التي أتمت عامها الـ56 بمفردها، تروي قصتها مع الأماكن التاريخية: "أنا غير متعلمة أه، لكن المعز ده دنيتي وبحس بالراحة وأنا بنظف فيه من 6 سنوات، وأهوا بتسلى مع الناس هناك بدل القاعدة لوحدي بعد ما عيالي كل واحد في بيته".بعيدًا عن "مسجد ومدرسة الظاهر برقوق" الذي اتخذت "مبروكة" منه ملجًأ للراحة القصيرة، كانت أعين زرقاء كأوراق الشجر الناضجة، تراقب ملابس السائحات ذو الأجساد الرشيقة، وتعود لتراقب جسد صاحبتها الهزيل الذي يتوارى في خجل خلف ملابس عاملة نظافة شابة، تحمل كفها الصغيرة صينية نحاسية، تهتز أكواب الشاي الساخن أعلاها مع حركتها، فتقول "رقية" لـ"أهل مصر": "السياح معاملتهم حلوة جدًا وعمري ما شوفت نظرة وحشة منهم على إني 18 سنة وشغالة عاملة نظافة".عند دقات الحادية عشر ظهرًا، يتبدل حال "رقية" كسندريلا هاربة من قصر الأمير، عائدة إلى منزل زوجة والدها بملابس متسخة تخفى أنوثتها، فتقول: "11 الصبح معاد الشغل بخلع هدومي الحلوة وبلبس هدوم عاملة نظافة بكون مكسوفة لكن ده أكل عيش ولازم أساعد أمي اللي شغالة عاملة نظافة في المعز كمان".وعلى إحدى درجات "مدرسة وقبة السلطان الناصر محمد بن قلاوون" المستقرة بين المدرسة الكاملية ومسجد الناصر محمد، تمسكت "كاميليا" صاحبة البشرة القمحية الناعمة، غير المستعدة للمقارنة مع كفها الخشن من ملامسة جسد المكنسة الخشبي، بكيس أسود كبير معبأ ببقايا الطعام الذي تركه زائري شارع المعز على الأرصفة، فتقول لـ"أهل مصر" بينما تتابع أعينها حركة ورقة دفعها الهواء البارد أمام المسجد: "أنا 50 سنة وشغالة في المعز من 10 الصبح لحد 4 العصر بـ1000 جنيه".لم تعد "كاميليا" التي ولدت بصعيد مصر، تلتقط نظرات الإهانة من أعين المارة، فتروي: "أنا في شارع المعز لدين الله الفاطمي من 5 سنوات بحس بالاحترام عن ما كنت بشتغل في تنظيف البيوت وأحيانًا الشوارع، الناس اللي بتزور هنا متفهمين وكمان معاملتهم حلوة، لكن نفسي أجد شغلانة تانية عشان أعرف استر بنتي الأخيرة".
كتب : منار محمد