إنها حقًا بائعة ذرة مثالية "صور"

بينما جنون الشتاء يكشر عن أنيابه، وتنهمر قطرات الماء من السماء الغائمة، تفوح الأرض بمصر الجديدة، تفوح برائحة الرطوبة، تَرَبَّعَت أم الأربعة فتيات، على حجر أسمتني تفتش عن الدفئ بين نيران شواء الذرة.

توارت "فاتن أحمد" بثوبها الفضفاض الذي لم يزد عن عباءة داكنة يعلوها حجاب أخضر يفيض على خصرها، خلف منضدة نحاسية مربعة صدئة من كافة جوانبها، ترحل ورقة غليظة ذات اللوان متدرجة بين الأصفر والأخضر والأسود، مخطوط عليها لعبة "السلم والثعبان" التي طالما خطفت أنظار الصغار قديمًا، من يدها اليمنى إلى اليسرى، دافعة نسمات الهواء القارص نحو الفحم الذي تشبثت خيوط النيران الذهبية به، لتوهجها، فتتناغم طلقات حبات الذرة، مع عطرها الدافئ، معلنة عن اكتمال الشواء.

منذ 30 عامًا تبدل مجرى حياة "فاتن"من الهدوء إلى كتلة من الأعاصير، بعد أن صدمت سيارة يقودها شاب زوجها لحظة عبوره طريق عمله بأحد المصانع بمدينة العبور، فتقول لـ"أهل مصر": "جوزي ركب 12 شريحة ومسمار في رجله ومبقاش قادر يشتغل لكن بيمشي ببطئ، فاضطريت أنزل أدور على رزق".

من بيع الترمس إلى الذرة المشوية، تدرجت البضائع التي تستجدي منها "فاتن" رزقها على إحدى أرصفة منطقة حديقة ابن سندر، التي تبعد خطوات عن مصر الجديدة، فتروي، بينما يدها تعري الذرة من غطائها الأخضر، قاذفة إياها بنعومة فوق النيران: "أنا على حسب الموسم، يعني مرة أبيع ترمس ومرة لب وسوداني ومرة ذرة ومرة تين شوكي والرزق بتاع ربنا في الآخر".

تنفق "فاتن" ما يقرب الـ150 جنيها، مقابل "شوال" الفحم والذرة الخضراء، فتقول: "في الشتاء بضطر أبيع ذرة، وبشتريها من 50 إلى 100 جنيه بحسبة الذرة الواحدة بجنيه ونص على حسب الفلوس معايا، و50 جنيه فحم، وببيع "كوز الذرة" بـ3 جنيه".

لم تكن عملية تركيب الشرائح بقدم زوج "فاتن" التي شارفت على الـ45 عاما، هي الدافع الوحيد نحو العمل إلى الحادية عشر مساءً، فتروي: "جوزي هيعمل عملية مية بيضاء في عينه بعد يومين في مستشفى حكومي لكن أنا لازم أشتغل من 3 العصر لقرب نص الليل عشان أقدر أصرف على البيت".

بينما تسارع "فاتن" في شواء الذرة للزبائن، تتشبث صغيرتها ذات السبع سنوات بطرف عباءتها، مداعبة إياها، طارقة قلبها بحثًا عن حنان الأم، فحنان أشقائها لا يشبع حاجتها للأمان، فتقول "فاتن": "عندي 4 بنات.. بنت في 2 كلية تجارة وواحدة معهد والثالثة ثانوية عامة والرابعة طفلة.. لحد دلوقتي مش عارفة هجوزهم إزاي؟".

إقرأ أيضاً
WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً