مجموعة من الحرفين قلما تجدهم بسهولة، قرروا أن يبقوا على مهنة تأثرت كثيرًا بتغير الزمن، لم تعد تلك الصناعة منتشرة كثيرًا إلا أنها ما زالت تحتفظ بمكانة كبيرة بين باقى الحرف، ما حدث لها جعلها أكثر أهمية فالعاملين بها تعاملوا مع ندرتها كواحدة من مميزات صناعتهم.
عند شروق الشمس يجتمع "عم جابر" صاحب الـ53 عامًا برفقائه ليبدأوا عملهم بين جرات النيران وقوالب النحاس، يقطعون مسافات بعيده ليطوف فنهم باقى محافظات الجمهورية، لايهتم أين سيذهب أو أي مسافة قد يقطعها المهم أن يبدأ في إشعال نيران المسابك فهي تعد بيته الثاني الذي يختبئ به عددًا ليس بالقليل من أسرار تلك المهنة.
طافت "أهل مصر" مع فريق عم جابر لتصل إلى دمياط، رحلتهم اليوم تجمع بين فن النقش على المحاس ومزج تلك الرسومات بالألواح الحشبية لتخرج علينا أبهى الصور الفنية، أجواء مرحة تعكس مدى بساطة هؤلاء العمال، لا يدل مظهرهم على ما يعانوه من أزمات سواء مع موجة الغلاء أو وقف الحال، ترسم على وجوههم ابتسامة تلخص معنى عشقهم لتراب نيران مسابك النحاس.
بين مطرقة الآلات ونيران المسابك يبدأ عم جابر يومه، فيأخذ أحدهم فى إشعال المسبك أولًا لتحضير قوالب النحاس والمواد السائلة التى تتشكل فيما بعد، يأخذ أحدهم السائل ساكبًا إياه داخل إناء نحاسي فيما يقوم آخر بتحضير القوالب من أجل بدء تشكيل الرسومات الخاصة بهم.
يقول عم جابر: "أنا من 40 سنة بشتغل الشغلة دي، ناس كتير تركتها لكني مقدرتش، اليوم اللي بعمل فيه رسمة جديدة بحس إني حققت نجاح كبير".
صمت قليلًا راح بتفكيره إلى ما سيقدمه لنا هذا اليوم، بدأ ممسكًا بإحدى القوالب وراح يمهد لها حتى بدت قطعة لينة يقوم بتشكيلها كما يريد، دقائق وبدأ "عم جابر" في نقش رسوماته على جدران النحاس، قطعنا حديثه مع النحاس بسؤال كيف تعلمت هذا؟.
وجاءت الإجابة، "بدأت رحلتي مع صناعة النقش على النحاس منذ العاشرة من عمري بإحدى الأحياء في الإسكندرية ولكني فضلت التجوال ليذاع سيطي بباقي المحافظات، أنا مارضيتشي أستنى في إسكندرية واكتفي بورشة صغيرة زي باقي المعملين اللي هناك، حبيت أكون ليا سيط، والكلام ده نفعني دلوقتي أنا من الناس القليلة اللي لسه بتشتغل الشغلانة دي".
لحظات خيم فيه الصمت ولكن أصوات الآلات هي المتحدث، أخذ العمال جميعهم يستعدون لاستقبال أول إنتاجهم لهذا اليوم، هذا يقف أمام جرة النار ينتظر السائل، وذلك يحضر ماكينته لتجهيز القوالب، بينما يقف آخر على بعد خطوات أمام ماكينته في انتظار المنتج ليضع اللمسات الأخيرة له، وبين كل هذا استمر عم جابر في إبداعه أخذ يرسم قوالب متعددة قطع صمته، قائلًا: "شغلنا اللي بيطعم بيه الموبيليا صعب جدًا لأنه محتاج تركيز زكل مرة بنحاول تعمل نقش جديد وده مجهود لوحده".
وأضاف "صانع النحاس"، قائلًا: دمياط معروفة بالذوق الخشبي لكني واحد من أسرار السمعة الطيبة دي، إحنا اللي بنضيف روح جديدة للخشب ونقدر نقدم أكتر من كده كمان".
لم يصغ "عم جابر" لأحاديث البعض عن غلاء الخامات، وقاطعم قائلًا: "طبعا الغلاء أثر علينا كتير وقلل من حركة الشغل، لكن إحنا برضه عندنا فن ماحدش يقدر يستغنى عنه حتى؛ لو الشغل قليل إحنا راضين ومستمرين في الشغلانة دي".