اعلان

قصة بائع "صحف زمان": الجريدة بـ30 جنيه.. وبالإيجار لطلاب الجامعات

مر الزمان، حاملًا ذكريات الهزيمة والانتصار، وكأنه مشهدًا سينمائيًا، التقطته عدسة كاميرا تفوح منها ذكريات الماضي، لكن محمود صادق، صاحب إحدى المكاتب بسور الأزبكية، لم يجد ما يخطف انتباهه في المسلسلات والأفلام ذات اللون الأبيض والأسود، فأخذ يتابع منهم الأفلام الوثائقية عن تاريخ مصر من رؤساء وحروب، لكن الجرائد التي انعدم لونها الزاهي، تاركًا لونًا يشبه أصفرار قرص الشمس، سحبته نحو نوعًا جديدًا من بيع وثائق التاريخ المدون بالكتب ذات رائحة الهواء العبق، فشرع بالبحث عن الجرائد والمجلات والصور التي عاصرت فترة السبعنيات والثمانينات والتسعينيات، عارضًا إياها للبيع لمن يقدر قيمتها.

في إحدى المجلات التي عرضها "صادق" بمكتبته التي لم تزيد عن عدة ألواح من الأخشاب متراصة بجانب بعضها البعض، ومغطأة بالمشمع الثقيل، يجلس الرئيس محمد أنور السادات متكأً على كرسيه الخشبي الوثير، دخان سجارته يدفع بذرات الهواء النقية لتتطاير من أمامه، خالقًا سحابة بيضاء تميل إلى لون رغوة القهوة الذائبة بالحليب، بينما تقبض أصابعه على أوراق.. لم تخلو الصورة التي التقطت للرئيس بتلك الحالة لتوضع غلافًا لمجلة "آخر ساعة" بعددها الصادر في التاسع من ديسمبر عام 1982 من إبراز شغفه بتلك الأوراق، التي لم تتضح معالمها.

المنشتات التي حاوطت الصورة أظهرت صعوبة المرحلة التي خاضتها مصر "مصر: أمة واحدة"، كهذا جاء المنشيت الرئيسي، لكن العناوين التي اعقبته لم تقل خطورة "مواجهة مؤامرة- الفتنة الطائفية والشعب يقول كلمته"، "المأساة السوداء في إيران: تحت حكم الخميني"، فيروي "صادق" قصته مع تلك الجرائد: "أنا بشتري الجرائد والمجلات القديمة من الناس اللي قربوا من 70 لـ90 سنة ومش بدفع فيها كتير، لأنها بتكون مرمية في مكاتبهم بالبيت وعارفين أن ولادهم هيرموها، فبيبعوها للي يقدرها لأنهم عارفين قيمتها".

عشرات الحبال التي استخدمها "صادق" في معرض الكتاب؛ لتعليق الجرائد والمجلات وصور الممثلين الذين عاصروا نصر أكتوبر ونكسة1967، عادت من جديد تختبئ أسفل الأرفف الخشبية المعلقة على الأحجار الأسمنتية الضخمة، فيقول بائع الجرائد التاريخية لـ"أهل مصر": "أيام معرض الكتاب كانت ناس كتير تيجي تتفرج على الجرائد القديمة، وأكثر المنشات اللي كانت بتشدهم: جريدة مايو: مبارك يجيب.. لماذا لم تتدخل الحراسة لانقاذ السادات؟- الاهرام: السادات يأمر بالافراج عن 2018 سجينًا سياسيًا وجنائيًا.. الأفراج عن جميع المسجونين الذين تطوعوا وهم في السجون وحاربوا معركة العبور- الوفد: ارتفاع ضحايا كارثة الزلزل.. 500 قتيل و4000 مصاب والعشرات تحت الأنقاض".

جريدة "الأخبار" الصادرة في الخامس من ديسمبر 1970، التي علقها "صادق"، صاحب الـ35 عامً، على باب مكتبته كانت قادرة على جذب من تتفقد أعينهم مكتبات سور الأزبكية، قبل الهبوط نحو محطة مترو العتبة.. الصورة التي ملئت صفحة الجريدة دفعت من ينظر نحو مشاعر الأبوة التي كانت يحرص الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، أظهارها لأسرته، فواحدة التقطت للزعيم مع أصغر أبنائه 'عبد الحكيم"، وثانية لأقارب الزعيم من الأطفال يتشبثون به لالتقاط صورة تذكارية معه، وثالثة للراحل يضحك مع حفيده "جمال" نجل ابنته، كل تلك الصور حملت مانشت: "عبد الناصر.. رب الأسرة الصغيرة الذي أعطى حياته للأسرة الكبرى".

يمتلك "صادق" جرائد ومجلات لوفاة الزعيم جمال عبد الناصر، ووفاة أنور السادات، وحرب أكتوبر، بقيمة 30 جنيهًا للقطعة.. في الثالث عشر من نوفمبر 1973، امتلئت الصفحة الأولى من جريدة أخبار اليوم، بالتحذيرات المصرية من تزويد إسرائيل بالأسلحة الأمريكية: 2000 قتيل وجريح خسرتها إسرائيل في المعارك.. 15 طائرة سقطت للعدو فوق الجبهة المصرية: استمرار القتال العنيف ف سيناء والجولان لليوم السابع وتكبد العد الإسرائيلي خسائر فادحة في طيراته ودباباته ورجاله"، وعلى يمين تلك الصفحة تستقر حكمة اليوم: "وأخرجوهم من حيث أخرجوكم".

لم تخلو مكتبة "صادق" من المجلات الترفيهية، فيقول: "عندي مجلة الكرة المصرية والنصر وبنت 16 وصباح الخير، لكن مبيعات معرض الكتاب كانت معقولة رغم زعلي أن اللي بيشتري بياخد التاريخ للديكور وليس للعلم"، لكن بعيدًا عن كل تلك المجالات، اصطفت صورًا تذكريًا لممثلين الشباك الأول، وكشف إحدى الصور تاريخ تعاون "محمد صبحي" مع "سماح أنور"، فالجزء السادس من "عائلة ونيس" الذي عرض منذ أعوام، لم يكن الأول من نوعه، كهذا ظهر في الصورة التي جمعت الطرفين في أحد أعمالهم التي عكست اطلالتهم الشبابية.

يمكن أن تترنح الذاكرة أمام طول الدقائق والساعات، لكن الحبر الأسود الذي خط على جريدة "أخبار اليوم" في عددها الصادر يوليو 1963، عاد بجماهير القلعة البيضاء إلى تاريخ جديد من الهزيمة التي اعتادوا عليها "الاتحاد السكندري يهزم الزمالك 2-3، ويفوز بالكأس".. أعلى تلك الجريدة تستقر جريدة "الأهرام" بمانشتها الذي لازال محفورًا بذاكرة من عاصروا الراحل محمد السادات: "المتهم خالد الاسلامبولي يعترف أمام المحكمة باغتيال السادات: جلسات سرية حفاظًا على أسرار القوات المسلحة".

لم يكن المشهد الذي ظهر فيه شيخ السينما، يحيى الفخراني، بمسلسل "عباس الأبيض في اليوم الأسود"، يعطي كتبًا مجانية للطلاب، تصرفًا لرجل تمكن الجنون منه، أو سكنت أساطير التاريخ عقله، فجعلته مهوسًا بعبق الماضي، بل هو رجلًا يؤمن أن التاريخ لا يقدر بالمال.. ذلك هو المبدأ الذي اتخذه "صادق" في التعامل مع زبائنه، فيقول: "الطلاب بياخدوا الجرائد والكتب دي بأسعار رمزية، وأحيانًا بيأجروها ويرجعوها تاني وطبعًا بكون متأكد أنهم طلاب من الكارنيه، هدفي مش الرحب أنا شايف أن التاريخ ملوش ثمن ولازم نحافظ عليه ولذلك بقالي سنوات شغال في التاريخ وليس الروايات والكتب الآخرى".

إقرأ أيضاً
WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً