لم يكن مسلسل "ريا وسكينة" الذي حكى أحداث العشرينات من القرن الماضي، الحقبة التي شهدت على منح صدقات للفقراء، احتفالًا بمولد الملك فاروق، آخر من حكم مصر من أسرة "محمد علي"، بعيدًا عن رصد بذرة التسول الذي ضربت مصر، فعام تلو الآخر، بدأ التسول بالنضوج، ليتحول من وسيلة للتغلب على الفقر إلى مهنة واحتراف لراغبي الغنى السريع.
لم تقتصر "الشحاتة" على مد المتسولين كفوفهم لركاب الأتوبيسات العامة، سائلين إياهم بضع جنيهات، فسرعان ما ظهر الملائكة الصغار "الأطفال"، بذات السيناريو، في عربات مترو القاهرة الكبرى، كأنهم سلالة جديدة من المتسولين، الذين دخلوا مهنة التسول سعيًا وراء الغناء وليس لحاجة ما يسترهم من المال، لكن تلك المهنة لم تقف عند حد مد اليد، التي تؤدي مهامها في طلب الأموال بصحبة قصة حزينة تدفع البعض للتعاطف مع المتسول، فبدأت أكياس المناديل تظهر في يد المتسولين، لإعادة تجديد تلك المهنة التي طالما اعتمدت على الدعاء أو نظرات الاستعطاف، إلى أن وصل الأمر لظهور متسولين يحملون المحاليل الطبية في يدهم، مدعين أنهم غير قادرين على استكمال العلاج.
أثبتت دراسة حديثة لـ"المركز القومي للبحوث الجنائية والاجتماعية"، أن القاهرة صاحبة المقام الأول في أعداد "المتسولين"، فتراوحت أعدادهم بين 4000 و5000 متسول، لتلحق بها عـــروس البحر الابيض المتوسط، بقرابة الـ1600 متسول.
وأكدت الدراسة أن هناك نسبة من المتسولين، دخلوا ذلك المجال دون رغبتهم، بلغت 3.41% من إجمالي المتسولين، في الوقت الذي يحمل 75% من المتسولين، لقب متسول موسمي، نظرًا لظهورهم في رمضان والأعياد، وكشفت الدراسة أن عدد المتسولين في مصر، اقترب من 11000 متسول، في الوقت الذي تبلغ نسبة الأطفال المتسولين بمحافظات مصر 7500 طفل.
بعد أن تحول التسول إلى مهنة، كان للدين رأي في انتشار تلك الظاهرة، فأكد الدكتور عوض إسماعيل، وكيل كلية الدراسات الإسلامية والعربية، أن التسول مسألة محسومة، فلا يجوز أن يلجأ له الإنسان إلا في الحالات القصوى، لكن أن تتخذ مهنة وحرفة لكسب الأموال، هذا أمر مرفوض شرعًا.
وأضاف في تصريح خاص لـ"أهل مصر" أن هناك من اتخذ من التسول وإظهار الفقر مهنة لطريق الغنى، مشيرًا إلى أن التسول يؤدي إلى كوارث مجتمعية، ولذلك الشرع الحنيف منع التسول، مؤكدًا أن التسول باب من أبواب الكسل وعدم السعي خلف لقمة العيش الحلال، بعرق الجبين، موضحًا أن هناك من يمتهن التسول للكسب، وهذا مرفوض شرعًا.
وأكد أن الرسول "ﷺ"، تحدث عن التسول وحد من تلك المسألة، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "مَن سأل الناس أموالهم تَكَثُّرًا فإنما يسأل جمرًا، فليستقل أو ليستَكثِر".
وأشار "إسماعيل" إلى أن هناك حالات يجوز فيها التسول، وهي من فقد ماله في الطريق، أو من كان في بلدًا لا يعرف فيه أحدًا وضاع كل ماله، ودفعته الحاجة الشديدة إلى التسول، وله أن يسأل على قدر حاجته.
ومن جانبه، أوضح الدكتور عبد الحليم منصور، عميد كلية الشريعة والقانون بالمنصورة، أن التسول ممنوع، والمجتمعات تقوم بعمل تحريات عن غير القادرين والمحتاجين، لدعمهم برواتب شهرية، في مقدمتهم المجتمعات الإسلامية، وتتولى تلك المسألة وزارات التضامن الاجتماعي.
وأضاف في تصريح خاص لـ"أهل مصر" أن الإنسان المسلم مطالب بدفع الزكاة للمستحقين، لعد انتشار المتسولين، موضحًا أن مهنة التسول في الوقت الحالي أصبح يدخلها من يريد الكسب دون بذل جهد، فاختلط الفقير بالغني، وأصبح الحق يذهب لغير المستحقين، مطالبًا المسلم بتحري الدقة قبل منح المتسول أموال، وفي حالة أن اخذته الرئفة في بعض الأحيان، فمن الأفضل أن يعطي مبلغًا قليلًا، حتى لا يرد السائل ويعطيه مبلغًا زهيدًا بالوقت ذاته.
وأوضح أن كل فقير من الفقراء لا يبرح مكانه، أو يستقر في الحي الخاص به، وكل حي يعرف الفقراء المتواجدين فيه، لكن الواقع أن المتسولين يذهبون إلى أماكن لا يعرفون فيها أحد، لاحتراف طرق معينة في التسول، موضحًا أنه في تلك الحالة يقف مع الفريق الذي يري عدم إعطاء المتسول نقود هو الأصح، أو يمكن إعطائه نقود قليلة.
وأشار "منصور" إلى أن هناك جهات كثيرة في الدولة تساعد غير القادرين، لكن وجود التسول يمكن أن يكون لسوء التنظيم في عمل تلك الجهات، موضحًا أنه كلما كان العمل منظم ودقيق، سيفيد في حصر الفقراء وأصحاب الدخل القليل، وبالتالي يسهل منحهم مساعدات.
وأوضح أن التسول يمكن أن يكون جائز في حالة كان الإنسان فقيرًا وصاحب حاجة ولا يجد من يعاون أو يقرضه، وبذلك يجوز التسول للضرورة.