"أهل مصر" تقضي 24 ساعة في حضرة يتامى الدقي.. مشرفة الجمعية: نستقبلهم "لحمة حمراء" من أمام المساجد وصناديق القمامة حتى سن الزواج.. أطفال ذوي الاحتياجات لهم معاملة خاصة

بينما تعلو أبواق السيارات، كان طفلًا يحبو عمره نحو العقد الثاني، يستقر في شرقة بالدور التاسع بشارع مصدق بالدقي في إحدى البنايات الشاقهة التي تميز الشارع عن غيره، تترصد أعينه المارين، في الوقت الذي تتحسس ابتسامة هادئة طريقها إلى فمه الذي لم تخرج منه الكلمات منذ الولادة.

الضوضاء تنبعث من البناية التي اتخذتها جمعية «رسالة» مقرًا لها، بالدقي، لا يميز تلك الأصوات التي وقعت على فريق «أهل مصر» الذي انتقل للاحتفال بعيد اليتيم مع أطفال الجمعية، إلا جمل مبهمة تصدر من فتيات تخطو سن الـ20، يرغبون في التطوع.

أكثر من 60 دقيقة.. كانت كافية للحصول على موافقة إدارة الجمعية لالتقاط أطراف الحديث مع المشرفين على الأطفال الأيتام، ومعرفة تاريخ حياتهم الذي لا يتعدى 11 عامًا، لا تحمل من التفاصيل إلا أبسطها، وأخذ قسطًا من اللهو مع الأطفال دون التقاط صورًا، مراعاة لخصوصياتهم.

بخطوات رشيقة تتفق مع سنوات عمرها، قادتنا إحدى العاملات في إدارة المتطوعين إلى الشقة التي يستقر بها الأطفال الأيتام.. الهدوء هو المسيطر الوحيد عقب دخولنا المصعد الذي استقر بنا بالدور الـ9، لننتظر نحن لحظات، خارج الشقة، تاركين مساحة للعاملة لشرح ظروف تواجدنا مع المشرفة الخاصة بالأطفال.

دقائق وكانت أقدامنا تطأ الشقة التي يسكنها الأطفال.. بدأت لحظات الهدوء تختفي لتحل مكانها أصوات لهو طفولي غير مفهومة كلماته، لكن واحدًا من الأطفال الثلاثة كان يسلط تركيزه على المارين بالشارع، من الشرفة الواسعة المغطاة بالحديد والزجاج، لتأمين الأطفال، بينما تستقر في يده «فوطة» زرقاء، يعبث بها دون هدف، فغرضه الوحيد شد خيوطها واقتلاعها لتصبح حرة في يده «هو عنده توحد وعلى طول بيحب يشد في الخيط»- هكذا وصفت عبير النحاس المشرفة على الأطفال حالة الطفل رمضان.

منذ أكثر من 5 سنوات كان «رمضان» يسير في إحدى شوارع القاهرة، ممسكًا بعدة خيوط متشابكة، إلى أن ضرب الجوع أمعائه، فجلس يتناول الطعام في إحدى المطاعم على منضدة أحد الجالسين «المواطن لما لقاه مش بيتكلم وشكله من ذوي الاحتياجات الخاصة بلغ القسم لكن لم يتم العثور على أهله وبعدها جه عندنا جمعية رسالة».

وتابعت النحاس حديثها: «بعت معلوماته على صفحة المفقودين على فيس بوك لكن محدش اتعرف عليه وحاليًا قرب على 11 سنة».

لم يختلف طراز الشقة التي يسكنها 3 أطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة، عن البيوت المصرية التقليدية، إلا ببعض أجهزة طبيعة تراصت خلف بعضها في غرفة الجلوس، التي شاهدنا الأطفال يلهونا بها «في «رسالة» بنحاول نعيش الطفل في جو اسري، فالتربية بتكون في شقة مش عنبر زي ما متبع في بعض الجمعيات»- حسبما روت النحاس.

بعد قرابة النصف ساعة، من الحديث مع المشرفة في إحدى غرف الشقة، المخصصة للجلوس حيث يستقر بها منضدة بلاستيكية محاطة بمقاعد جلدية، بدأ صوتًا يقترب، ليطل الطفل الثاني الذي لا يبرح كرسيه المتحرك منذ سنوات، باسطًا يده نحو محررة "اهل مصر"، ليناديها«ماما حركيني».. في البداية كان عنصر المفاجأة سيد الموقف، لتتتدخل المشرفة وتفسر ما يقول الطفل لنا «هو بيقول لها ماما تعالي حركي الكرسي بيا عشان بيحب دايمًا حد يحركه ويلعب معاه»، لتتحرك المحررة وتداعب الطفل لدقائق إلى أن تتعالى ضحكاته وتعود إلى الغرفة ثانية لاستكمال الحديث.

الأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة، دائمًا في حاجة إلى متابعة طبية، فتقول المشرفة: «الأطفال الأيتام الجمعية بتوديهم مراكز طبية للعلاج الطبيعي والتخاطب، والأم البديلة بتروح مع الطفل المسئوله عنه عشان تتابع معاه في البيت اللي اتعلمه في المركز»، متابعة: «الجمعية عاملة صالة علاج طبيعي للأطفال، وفيه دكتور بيجي يوميًا ليهم».

في كل شقة من البناية الخاصة بجمعية «رسالة» يستقر 6 أطفال، بصحبة 3 أمهات بديلة ومشرفة «يفضل اختيار الأم البديلة من الفتيات لأن مشاكلهم قليلة وبيستحملوا الأطفال»، وتابعت المشرفة: «نظام الشغل بيكون 22 يوما وإجازة 8 أيام في الشهر، حفاظًا على استقرار نفسية الأطفال».

يستقر بجمعية رسالة عشرات الأطفال اليتامى من مجهولي النسب، الذين تتشابه قصة حياتهم، فتبدأ بالعثور عليهم في سلة القمامة أو أمام المساجد والمنازل، ويحاول من وجدهم العثور على عائلتهم، فيتجه إلى قسم الشرطة لعمل محضر ومحاولة العثور على الطفل في قائمة المفقودين، وإذا فشل الثسم يحول الأمر إلى وزارة التضامن الاجتماعي التي تقوم بدورها بمعرفة الحالة الصحية للطفل ومنحه لأسرة بغرض إرضاعه.

اتمام الطفل اليتيم عامه الثاني، يشكل مرحلة جديدة في حياته، ينتقل خلالها إلى دور رعاية بعد انتهاء فترة الرضاعة «الجمعيات لما تستقبل أطفال بتعمل لهم تحاليل شاملة للحفاظ على الأطفال الآخرين من انتشار الفيروسات ولو الطفل بيعاني من فيروس يتعالج سريعًا»- حسبما وصفت المشرفة.

«لم يحدث أن وجدنا أهل لطفل من المتواجدين في الجمعية فجميعهم من مجهولي النسب».. هكذا قالت المشرفة، متابعة: «اللي يقول إن الطفل يخصه بيجيب اثبات من خلال تحاليل أو صور أو وصف ولا يسلم له الطفل بعد التأكد من الجهات المختصة أنه صادق».

قفزة طائشة من الكرة ذات اللون الأحمر القاتم، التي انزلقت من يد "رمضان" جعلتنا ننتبه أنه يرغب في اللعب معنا بالكرة التي دائمًا ما تجذب انتباهه، في اللحظة التي يستجمع فيها قواه لانتشال خيط من الفوطة المستقرة بين يديه، فحاولنا مساعدته، لنفاجأة بضحكة عالية صدرت منه، فترجمت المشرفة الموقف «هو مبسوط لما بيلاقي حد يهتهم يلعب معاه».

اليتامى وخاصة من ذوي الاحتياجات الخاصة، لم تقف معاناتهم عند حد فقدان العائلة والشعور بنعيمها، فالقدرة على الاستيعاب والإدراك، لا تمثل غيرها من الأطفال ذوي العائلات «أول مشكلة بنعاني منها مع الأطفال الأيتام هي مشاكل التعليم، لأن الطفل غالبًا تعرض لظروف صحية سئية لحظة الولادة والأيام اللي بعدها لما يترمي في الشارع بدون أكل، فنسبة الاكسجين بتختل في المخ».

«المشكلة الثانية هي السلوك، لأن الأم البديلة بتتغير وطبعًا كل أم بتأثر في سلوك الطفل ومن سن 11 سنة يبدأ الطفل يدرك حياته ويسأل أهلي فين وأنا هنا في الجمعية بعمل إيه، وبندأ معاهم تعديل سلوك»- كانت تلك هي المشكلة الثانية التي تظهر خلال رحلة تربية الأطفال الأيتام.

بعد سن الـ18، يبدأ كفاح اليتيم في الحياة لإيجاد مصدر رزق، وتكوين أسرة سوية، لكن بعض الجمعيات يدخر جزء من أموال التبرعات لفتح دفتر توفير باسم الطفل اليتيم وشراء شقة، وهذا ما اتبعته "رسالة" مع أطفالها، لكن الأيتام من ذوي الاحتياجات الخاصة أمرهم مختلف «ملهومش شقة لأن حياتهم كلها في الجمعية، فبتتصرف الفلوس عليهم وعلى العلاج»- حسبما وصفت المشرفة.

الحياة تمنح هدايا من وقتًا لأخر، وهداياها إلى الطفل اليتيم إيجاد أسرة تشبع حرمانه من العاطفة، لكن تلك الخطوة تحتاج إلى عدة نقاط قبل اتمامها، فتروي المشرفة: «التبني يكون من خلال الشئون الاجتماعية لفحص العائلة والتأكد من صلاحيتها من حيث بيئة أسرية مستقرة للطفل».

«بعد حصول الأسرة على الطفل تقوم وزارة التضامن بمتابعة دورية لمعرفة حالة الطفل وصحته ودراسته وفي حالة التقصير يتم سحبه من الأسرة»، وتابعت: «القانون بيسمح أن الطفل اللي العائلة اخدته تربيه وياخد لقب الأسرة في بطاقته حتى لا يكون غريب بشكل كامل عن العائلة».

الأيام تتوالى سريعًا، والذاكرة تفقد قوتها، فتبدأ بعض الذكريات تتلاشى، إلا أن اليتيم سيتذكر فقدانه لوالديه مهما كثرت سنوات عمره، فالبطاقة الشخصية خاصته تحتوي بضع أرقامها على أنه يتيم، فتقول المشرفة: «الأطفال بيتعمل ليهم بطاقة بشكل عادي لكن في أرقام معينة في أرقام البطاقة بتدل أنه مجهول النسب».

الأطفال اليتامى يحظون دائمًا برعاية من الشئون الاجتماعية الخاصة بوزارة التضامن الاجتماعي، خلال فترة استقرارهم في الجمعيات، فتقول المشرفة: «الشئون تقوم بزيارة إلى جميعة رسالة مرتين في الشهر للتأكد من صحة الأطفال والمعاملة وتفحص الورق الخاصة بالأطفال».

إقرأ أيضاً
WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً
عاجل
عاجل
خالد الصاوي بختام مهرجان القاهرة: قلبنا مع فلسطين ولبنان وقريب هتبقى "إيدينا" كمان