بإمكانيات أقل تربعوا على عرشه، خطفوا العيون والأبصار ومن قبلها العقول، استغلوا كل ما أوتوا من إبهار ووسائل تشويق ليكونوا في الصدارة، خلقوا من عدم دون وجود مسبق، وكأنهم نبتات خرجت من أرض جرداء.
أما المبنى الذي مثل الريادة العربية في مجاله لسنوات طوال توارى عن الأنظار، بفعل فاعل، ليس لقلة ما به من إمكانات بشرية أو مادية تقنية، حيث تمكن من يعملون فيه من إدارة وتشغيل العديد من الكيانات الخاصة وربما الرسمية العربية التي تنافسه، لا لسبب سوى، سقوط في خيوط وشبكات الفساد، ونقصد هنا فساد من قاموا على إدارته.
هنا القاهرة، صوت العرب من القاهرة، صباح الخير يا مصر، بيت العرب، برامج واستهلالات دوت في فضاء الوطن العربي وكانت حدودها العالم، هذا كان حال مبنى الإذاعة والتلفزيون المصري، والذي عرف اختصارًا بـ «ماسبيرو»، أما حلقات ابعاده عن تلك الريادة امتدت لعقود عدة مضت، لعل أبرزها، بيع شرائط نادرة من مكتبه التلفزيون وخاصة الأفلام النادرة منها، في صفقة فساد كبرى، اهتزت لها أركان المبنى والدولة المصرية بجهاتها الأربع، حيث تم تهريب عدد كبير من هذه الأفلام وبيعها بثمن بخس إلى شركة «روتانا» التي يمتلكها الأمير السعودي الوليد بن طلال، دون معرفة الجاني أو الوقوف على ملابسات القضية.
آخر سطور كشف المستور في مبنى ماسبيرو تلك التي كتبها الجهاز المركزي للمحاسبات ممهورة بـ «سري للغاية»، أما وجهة التقرير فكان مجلس النواب، ومضمونه تمحور حول مراقبة حسابات اتحاد الإذاعة والتلفزيون خلال العامين الماليين 2013 - 2014، 2014 – 2015.
تقرير المركزي للمحاسبات رصد خسائر المبنى حتى يونيه 2015، والبالغة أكثر من 32 مليار جنيه، نحو 4 مليارات ونصف منها خسائر العام المالي 2014 – 2015 فقط.
أما المفاجأة التي كشفها التقرير فكانت اعتماد الاتحاد في تمويل أصوله ومشروعاته الاستثمارية على القروض، التي لم يتمكن من القدرة على سداد أقساطها وفوائدها.
2 مليار ونصف متأخرات فوائد الديون
عدم مقدرة اتحاد الإذاعة والتلفزيون على دفع أقساط القروض دفع بنك الإستثمار القومي الدائن للاتحاد إلى رسملة متأخرات الفوائد، حيث بلغت جملتها عن العام المالى 2014 - 2015، نحو 2 مليار ونصف مليار جنيه، متضمنة فوائد تأخير بنحو مليار و 314 مليون جنيه، بينما كانت الفوائد المرسملة في 30 يونيو 2015، نحو 224 مليونًا و744 ألف جنيه.
تخلي الاتحاد عن الانتاج عبر الاعتماد على الشركات المنفذة
ومن الأسباب الجوهرية التي أدت إلى تكبد الإذاعة والتلفزيون خسائر طائلة تلك المتعلقة بتخليه عن دوره الريادي في إدارة العملية الإنتاجية لأعماله من تنفيذ وتسويق، اعتمادًا على المنتج المنفذ، الذي يقوم بإنتاج تلك الأعمال بتمويل كامل من الاتحاد لصالحه، إضافة إلى المنتج المشارك في تنفيذ معظم أعماله على الرغم من توافر الكوادر الفنية والبشرية والإمكانيات اللازمة للإنتاج، ما أدى إلى ارتفاع الكلفة الإجمالية للأعمال الفنية، ناهيك عن عدم تمكنه من المنافسة في سوق الأعمال.
المشاركة في إستثمارات لا تحقق عوائد اقتصادية
كما أسهمت مشاركة اتحاد الإذاعة والتلفزيون في إستثمارات لا تحقق عوائد أكثر مما يتكبده الاتحاد من فوائد قروض تمويل هذه الإستثمارات، ناهيم عن استمرار الاتحاد في نهج استئجاره معدات وأجهزة فنية من الخارج على الرغم من امتلاكه معدات أكثر تقنية ومهنية منها، إضافة إلى مسارح و استديوهات كثيرة.
3.2 مليار جنيه خسائر مجلتي الإذاعة والتلفزيون والكافتيريا
وكانت من ضمن بنود الخسائر التي رصدها الجهاز المركزي للمحاسبات ارتبطت بما تكبدته مجلتي الشعر والإذاعة والتلفزيون اضافة إلى كافتيريا الاتحاد والبالغة نحو 2 .3 مليار جنيه، ولك توقف الأمر عند هذا الحد بل تعداه إلى التوسع العمدي في صرف مكافآت وتطبيق لائحة الأجور الجديدة منذ أبريل 2012.
عدم حصول الاتحاد على الكلفة الكاملة لإعلانات الدولة
أما المفاجأة التي وصفت بالصادمة هي عدم حصول الاتحاد على المقابل الكامل ما يقدمه من خدمات إعلامية لأجهزة الدولة الهادفة إلى توعية المواطنين والتي بلغت نحو 4.4 مليار جنيه، بينما حصل فقط على مليار جنيه منها فقط .
عدم اعتماد قوائم مالية منذ 2008 وحتى 2013
ومما يؤكد أن ما يتعرض له الاتحاد من خسائر، تقف وراءة منظومة وصفت بالمتشعبة، حيث كشف تقرير المركزي للمحاسبات أن الجمعية العامة للاتحاد لم تعتمد القوائم المالية الخاصة بالعام المالي 2013 - 2014 والأعوام المالية السابقة منذ 2008- 2009، وهو ما يعد مخالفة لقانون اتحاد الإذاعة والتلفزيون، على الرغم من مخاطبات الجهاز المتكررة لوزير الإعلام كان آخرها في الخامس من فبراير 2015، مشيراً إلى أن القوائم المالية للاتحاد حتى 30 يونيه 2015، لا تعبر بوضوح في جميع جوانبها الهامة عن المركز المالي له ونتائج أعماله وتدفقاته النقدية عن السنة المالية المنتهية.
لم يتم جرد أصول الاتحاد والتي تبلغ كلفتها 4.9 مليار جنيه خلال العام المالي الماضي
أما عن أصول الاتحاد الثابتة فلم يتم التحقق من وجودها الفعلي من نخلال جرد ومطابقة الأراضي والمباني والآلات والمعدات بقطاع الهندسة الإذاعية في 30/6/2015، والتي تبلغ كلفتها 4.9 مليار جنيه، إضافة إلى عدم التحقق من صحة رصيد تلك الأصول، والتى تضم عدد وأدوات بقطاع الإذاعة البالغ قيمتها نحو 183 مليون جنيه، كما لم يتم جرد 75% من أصول قطاع الإنتاج مرحلياً لكل مرحلة، وهو ما يعني عدم التأكد من وجود تلك المثبتة في القوائم المالية خلال 30 العام المالي 2014. لم يتوقف الأمر أيضاً عند هذا الحدد بل لم يتم جرد جميع الأصول المعارة من قطاعات الاتحاد لبعض الجهات الخارجية بالمخالفة للائحة المخازن، إضافة إلى عدم جرد الأصول المعارة بين قطاعات الاتحاد المختلفة، أو لبعض الجهات الخارجية أو الحصول على شهادات من الجهات الخارجية أو القطاعات بعضها البعض، التى يوجد طرفها تلك الأصول، تؤكد وجودها وحالتها الفنية، الأمر الذى لم يتمكن معه الجهاز من التحقق من الوجود الفعلى لتلك الأصول، كما تعذر الوصول لتكلفتها الفعلية من واقع الدفاتر الممسوكة بالقطاعات، وبالمخالفة للمادة 16 من لائحة المخازن.
عدم صحة بعض الأرصدة المثبتة بسجلات الأصول بفروق 54 مليون جنيه.. و 15 مليون جنيه أصول مسروقة
تقرير المركزي للمحاسبات أكد أن الجرد المفاجئ لبعض مراكز الإرسال التابعة لقطاع الهندسة الإذاعية أشار إلى عدم صحة بعض الأرصدة المثبتة بسجلات الأصول وصورية المطابقات التي أظهرت فروق بلغ ما أمكن حصره منها في 30/6/2015، نحو 54 مليون جنيه، بنحو 38 مليون جنيه قيمة أصول غير موجودة على الطبيعة بقطاع الهندسة الإذاعية، و 15 مليون جنيه قيمة أصول تم سرقة أغلبها بمناطق شمال الوجه القبلي والبحر الأحمر والساحل الشمالي الغربي. كما لم يتم الانتهاء من جرد مكتبة الفيديوتيوب بقطاع التلفزيون.
عدم الانتهاء من جرد مكتبة الفيديو تيوب
لم يتم الانتهاء من أعمال اللجنة المُشكلة لجرد مكتبة الفيديوتيوب بقطاع التلفزيون، والتى تم مد أعمالها مرات عدة لعل آخرها في 30/4/2014، الأمر الذي لم يتمكن معه التحقق من صحة الأرصدة الظاهرة بالقوائم المالية الموثقة في 30/6/2014، والبالغة نحو 308 ملايين جنيه.
الاتحاد لم يستغل أراضي مملوكة له
التقرير شدد أيضاً على أن الاتحاد لم يستغل العديد من الأراضي المملوكة له أو المخصصة بغرض إقامة مشروعات بالرغم من مرور فترات زمنية طويلة على حيازتها أو قرارات تخصيصها، ما ترتب عليه إلغاء تخصيص بعضها كنتيجة أساسية لعدم وضع الدراسات الفنية والاقتصادية للاستفادة منها في حينها بما يكفل الحفاظ عليها، ما أدى إلى إلحاق الضرر بمصالح الاتحاد، لتعرض بعض تلك الأراضى للتعدى عليها من قبل الغير وبناء منشآت عليها وأخرى محل نزاع منظور أمام القضاء.
الطاقات العاطلة وغير المستغلة نحو 207 ملايين و 99 ألف جنيه
الجهاز المركزى للمحاسبات، أكد أيضاً أن الطاقات العاطلة وغير المستغلة، بلغ ما أمكن حصره منها نحو 207 ملايين و 99 ألف جنيه، إضافة إلى تعرض أغلبها للتلف والتقادم الفني والتكنولوجي.
كما تضمن حساب التكوين الاستثماري، أرصدة متوقفة ومُرحلة منذ سنوات بعضها يمثل قيمة طاقات عاطلة، وغير مستغلة يرجع بعضها لعام 1987 وما بعده، بلغ ما أمكن حصره منها نحو 102 مليون و 870 ألف جنيه، منها نحو 21 مليون و 214 ألف جنيه أرصدة مشروعات وعقود وأعمال فنية متوقفة منذ سنوات مالية سابقة، و 81 مليونا و 656 ألف جنيه، تمثل قيمة مشروعات تم البدء فيها دون استكمال.
740 مليونًا قيمة مديونية وكالة الأهرام للإعلان
أما قيمة المديونية المستحقة على وكالة الأهرام للإعلان فققد بلغت نحو 740 مليونا، و 634 جنيها، منها 51 مليون جنيه تم الإتفاق معها على جدولتها وسدادها دون أن يشمل اتفاق التسوية كامل المديونية المستحقة طرف الوكالة، خاصة وأن معظمها يمثل قيمة ضرائب ودمغات إعلانات مستحقة لمصلحة الضرائب.
إهدار حقوق الاتحاد في بعض تعاقداته
كما لوحظ وجود بعض التعاقدات المُبرمة أهدرت حقوق الاتحاد، وعدم توافر الحد الأدنى من الشروط الواجبة للحفاظ على مصالحه في مواجهة الغير، إضافة إلى عدم مراعاتها لتعظيم عوائده الاقتصادية، ومدى جدوى توظيف أمواله واستثماراته، ويتضح ذلك بتعاقدات الاتحاد بالأمر المباشر كطرف أول مع شركات «روتانا» الدولية للإنتاج والتوزيع الفني و«ميلودي» لوسائل الإعلان و«ديجيتال ساوند».
150 مليون جنيه قرض لتطوير القناتين الأولى والثانية
حصل الاتحاد على قرض قيمته 150 مليون جنيه من بنك الاستثمار القومي بتاريخ 22/3/2010 بهدف تطوير القناتين الأولى والثانية الفضائية المصرية وإطلاق شبكات راديو النيل، بضمان جزء من أسهم الاتحاد المملوكة بكل من الشركتين المصرية لمدينة الإنتاج الإعلامي والمصرية للأقمار الصناعية، وقد تبين صرف نحو 19 مليونا و 576 ألف جنيه من القرض الثاني تخص مرتبات ونثريات تخص شبكة راديو النيل.
التزامات وقروض طويلة الأجل بنحو 25 مليارًا
أما الالتزامات طويلة الأجل فقد بلغت في 30 يونيو من 2015، نحو 17 مليارا و 778 مليون جنيه، وبلغ رصيد قروض طويلة الأجل من بنك الاستثمار القومي نحو 8 مليارات و 97 مليون جنيه، كما تبين وجود فروق بنحو 415 مليون جنيه بين الرصيد الدفتري للقروض «8 مليار و 97 مليون جنيه» والرصيد الوارد بمصادقة بنك الاستثمار القومي البالغ نحو 8 مليارات و 512 مليون جنيه.
تهالك المكتبة التاريخية بالإذاعة
أما عن حالة المكتبة التاريخية بقطاع الإذاعة فقد كشف عن تهالك حالتها على الرغم مما تحتويه من تراث إذاعي نادر، ما يعرض محتوياتها لمخاطر جسيمة، وتلاحظ تعطل أجهزة التكييف ومرور مواسير المياه والصرف الصحي بها.
3 ملايين جنيه لاستقدام عمالة من الخارج
وترسيخًا للفساد في ماسبيرو فقد تم استقدام عمالة من الخارج على الرغم من وجود متخصصين لذات الأعمال، بقيمة مليون و100 ألف جنيه بقطاع القنوات المتخصصة، وبنحو 2 مليون جنيه بقطاع التلفزيون، وكذلك تحمل قطاع القنوات المتخصصة لتكلفة نحو 128 مليون جنيه قيمة أعباء وتكاليف بعض القنوات كالثقافية والتعليمية والأسرة والطفل.
عدم وجود إعلانات حتى 2013 وقصور في الضبط والرقابة
أما المفارقة الكبرى في عمل ماسبيرو فكانت عدم وجود أية إعلانات على تلك القنوات حتى ديسمبر 2013. كما اكتشف قصور في نظم الضبط والرقابة الداخلية بالاتحاد وقطاعاته وما تزال قائمة حتى الآن، في مقدمتها عدم توفير الحماية الكافية لأصول وممتلكات الاتحاد، وضعف الرقابة على الحركة النقدية بالخزائن والسلف المنصرفة لأرباب العهد، وعدم قيام أمناء عهد مكتبات الشرائط المسجلة بإمساك سجل لإثبات حركة الأشرطة وتسجيل المُعار منها، وعدم توافر ماكينات عرض بالمكتبات «النيل الدولية، والنيل للأخبار»، وذلك للتحقق من صحة وسلامة المواد المسجلة على الشرائط عند ارتجاعها، وصرف وإضافة بعض الأصناف بالمخازن دون تحرير مستندات الإضافة والصرف الواجبة.
تقارير رقابية عدة كشفت المستور في المبنى المعمور «ماسبيرو»، ولكن هل تحرك ساكنًا لتعلو مرة أخرى، «هنا القاهرة»، ليسمعها ويراها الجميع من مكة المكرمة وبغداد الصامدة إلى القدس المرابطة.