كان حلمها بسيط جدًا، فلم تكن «إيمان» ابنة محافظة سوهاج تعلم أن عمرها سينتهي بيدها شنقًا داخل منزلها.
كمثل كل البنات، أرادت والدة إيمان تزويجها، وبالفعل قد كان فعندما عندما أراد فتحى الزواج والاستقرار وجد ضالته فى ابنة قريته والتى تمت له بصلة قرابة نادية، ولكن من البداية تمكنت منه وأصبح مثل الخاتم بإصبعها.
وكما يقولون ذبحت له القطة من أول يوم زواج وسيطرت على مقاليد الحياة، وأصبحت هى الآمر الناهى والحاكم بأمره، وكان كل ما يملكه من خلال عمله يضعه بين يديها صاغراً حتى منَّ الله عليهما ورزقهما بأول مولود طفلة جميلة.
وبدأت تزداد الأعباء وطلبت منه البحث عن عقد عمل والسفر، وكان لها ما أرادت فقد أكرمه الله بفرصة سفر إلى إحدى الدول العربية، ولم ينتظر طويلاً حتى وجد عملاً وكل ما كان يتحصل عليه يرسله لزوجته ومكث عاماً ونصف العام وعاد فى إجازة محملاً بالهدايا، وبعد أن قضاها سافر مرة أخرى ليواصل عمله.
وبعد أقل من شهر تحدثه ناديه بأنها حامل ليطير من الفرح ويمن الله عليهم بثلاثة أبناء ذكور، وتمر السنون وتكبر إيمان وأشقاؤها والأب فى عمله خارج البلاد مثل الآلة التى ترسل النقود فقط ولأن ظروف الأسرة المتوسطة والحياة مثل الرحايا لم يتمكن فتحى من إنهاء عمله والعودة إلى وطنه ليعيش وسط أسرته وأولاده.
وكلما فكر فى ذلك كانت زوجته تصر وتمنعه من العودة وتذكره باحتياجهم إلى المال ولا يوجد مصدر دخل سوى ما يرسله من نقود من خلال عمله، وكذلك ابنته التى نمت وترعرعت وأصبحت على وش زواج وتحتاج إلى مبالغ ضخمة لتجهيزها.
وكانت إيمان كما يطلقون عليها «البكرية» وهى أكبر إخوتها بالصف الثانوى التجارى حباها الله بقدر وافر من الجمال وخفة الدم وجسد ممشوق كغصن بان، وكانت زميلاتها يطلقن عليها إيزيس عشقت إيمان الدنيا وكل أحلامها أن تنهى دراستها وترتبط بالشخص الذى أحبته وعشقته حد الإدمان ولم تتخيل الحياة بدونه أو تكون فى يوم من الأيام لأحد غيره ورسمت فى أحلامها صورته زوجاً لها وأب لأبنائها، ولكن تأتى الرياح بما لا تشتهى السفن
فكان هناك شاب آخر من أثرياء القرية يراقب كل خطواتها عن بعد ولا تغيب عن ناظريه لأنها من أجمل بنات القرية خشى هذا الشاب أن يسبقه غيره ويفوز بها، وكان هذا الشاب لا يعلم قصة الحب بين إيمان وحبيبها وتقدم لخطبتها.
لم تخبر إيمان والدتها بقصة حبها خشية من قسوتها وشدتها معها فى المعاملة، ولأن حبيبها لم يكن مستعداً بعد للتقدم وطلب يدها لأن ظروفهما قد تكون متشابهة، وعندما تقدم الشاب الثرى لطلب يدها من أمها وافقت على الفور ولم تأخذ رأى ابنتها لأنه كان من وجهة نظرها فرصة لن تعوض، وهو من ينتشل الأسرة من براثن الفقر.
وقضى الشاب جلسته مع الأم وأبنائها الذكور وأخذ واجب ضيافته وانصرف على وعد منهم بالرد عليه لتحديد موعد الخطوبة والزفاف، كل هذا يحدث وإيمان فى غرفتها تذاكر دروسها تارة وتحلم بفارس أحلامها الذى سوف يجىء بحصانه الأبيض ويخطفها إلى عش الزوجية الذى رسماه معاً تارة أخرى حتى أفاقت على صوت أمها وهى تنادى باسمها لتهبط إليها مسرعة لتعرف ماذا تريد وعندما قصت لها أمها عن الشاب الذى تقدم لخطبتها وأنها وافقت عليه نزل عليها الخبر كالصاعقة ولجم لسانها وفقدت وعيها فى الحال.
وعندما عادت لوعيها عاودت الأم ما قالته على أسماع ابنتها محاولة إقناعها بشتى الطرق، وبأن هذا الشاب سوف يسعدها ويحقق أحلامها وذكّرتها بظروفهم الصعبة وظروف والدها الذى أكلته الغربة وظروف إخوتها الصغار وبأن من يجاور السعيد يسعد وأن الفرصة تأتى مرة واحدة فى العمر وهذه فرصتهم جميعاً ولن تفرط فيها لأى سبب من الأسباب، وأن رفض هذا العريس على جثتها.
كل هذا الكلام لم تسمع منه إيمان حرفاً واحداً لأنها كانت فى عالم آخر وعقلها مشتت وليست فى وعيها، وعندما عادت لوعيها وأدركت الخطر المحدق بها ذهبت لأمها وحاولت بكل الطرق إثناءها عن رأيها، وأنها لا تحب هذا الشاب ولا يمكن أن تحبه فى يوم من الأيام، وأنها لا يمكنها الارتباط به، قالت لها أمها إن الحب يأتى بعد الزواج و«بلاش كلام فارغ» لا يودى ولا يجيب وحاولت إيمان مرات عديدة إقناع أمها دون جدوى وقبلت يديها وقدميها حتى حذاءها والأم مصرة
على رأيها، وعندما لم تجد مفراً روت لها قصة حبها من شخص آخر ولا تستطيع الحياة بعيداً عنه نهرتها أمها بشدة وعنفتها وقالت لها إنه يعيش الفقر الذى نعيش فيه، وإنه لا يستطيع أن يسعدها إنه فقير وهذا يكفى.
لم تيأس إيمان ولم تستسلم أمام إصرار أمها ولم ترضخ لفرماناتها وذهبت إلى حبيبها تستنجد به وتحتمى بحبه ولم ينتظر بل أخذ أسرته وذهب يطلب يدها من والدتها ولكن كان رد الأم فى صلف وتكبر بأن ابنتها ليست للزواج وأنها مخطوبة لشخص آخر وعليه أن يبتعد عنها.
وعلمت إيمان بما كان من والدتها وما فعلته مع حبيبها وأسرته والإهانة التى تعرضوا لها حاولت مرة أخرى إقناعها بأن توافق على خطبتها ممن اختاره قلبها وتنسى قصة الشاب «الثرى» فما كان من أمها إلا الرفض التام والنهائى، فهرعت إيمان إلى غرفتها والدموع تغرق ملابسها وتحفر فوق وجنتيها الجميلتين ندوباً غائرة ويتحجر الحزن فى مقلتيها ويعتصر الألم قلبها الصغير وتتمزق أحشاؤها وأخذت تتقلب فى فراشها علها تستطيع النوم أو يغمض لها جفن من الحسرة والندم، وحاولت أن توسط والدها الذى لا حول له ولا قوة ولكن خذلها وطلب منها أن تستمع لكلمات أمها.
عندما شعرت الأم بأن ابنتها تحاول بكل ما أوتيت من قوة رفض الزواج من هذا الثرى لجأت لحيلة ماكرة وهى إقناعها بالموافقة على الخطوبة فقط وتستمر فترة معه وإن لم تقتنع به سوف تقوم بفسخ الخطبة وكأن شيئاً لم يكن صدقت إيمان حيلة والدتها ووافقت على مضض.
وأرسلت الأم فى طلب العريس تخبره بتحديد ميعاد الخطوبة واحتفلت الأسرتان فى ليلة كانت من أسوأ الليالى بالنسبة لإيمان فقد انطفأ جمالها وخيم الحزن على عينيها وحاولت إخفاء الدموع فى مقلتيها، ومرت الأيام وحاول الشاب بإيعاز من أم إيمان استمالة قلبها والتقرب منها والتودد إليها وإغداقها بالهدايا، ولكن كل هذا لم يحرك فيها ساكنا ولم تشعر لحظة واحدة بوجوده ولم تستمع لكلمة واحدة مما يقول.
واعترفت إيمان لأمها بأنها لا تطيقه ولا تريده ولن تتزوجه وعليها أن تفى بوعدها وتخلصها من هذا الشخص وتنهى الخطوبة فما كان من أمها إلا أن قالت لها بكل تحدٍ وعناد بأنها سوف تتزوجه ورجلها فوق رقبتها هنا ثارت إيمان فى وجه أمها مهددة بالتخلص من حياتها إن هى أجبرتها على الزواج منه لم تلق الأم بالاً لما قالته ابنتها لم تصدق الأم تهديد ابنتها ولم تعره أى اهتمام وفكرت بأنها كلمات عابرة رمت بها فى وقت غضبها أو تهديداً لتثنيها عن رأيها.
أسرعت إيمان إلى غرفتها وأمسكت بيد مرتعشة بقلم وورقة وسطرت رسالتها الأخيرة (والدى ووالدتى سامحونى وأنا بجد بحبكم» وكتبت لخطيبها: «إنت تستاهل واحدة أحسن منى» وكتبت لصديقاتها: «صحباتى هتوحشنونى موت والله» واختتمت رسالتها سامحونى لأن الخط مش مظبوط لأنى مستعجلة أشوف ربنا)، وكانت هذه آخر صلة لها بالحياة بعدها قامت بشنق نفسها وعندما ذهبت الأم فى الصباح لتوقظها كعادتها للذهاب إلى مدرستها وجدتها قد فارقت الحياة فأطلقت صرخة مدوية استيقظ على شدتها سكان القرية ليجدوها تهذى أنا السبب يا ضنايا.