اعلان

«كفر الحصر».. قلعة الصناعة اليدوية في الشرقية قيد الانهيار (فيديو وصور)

عزيمة تتحدى الزمن وصبر يكسر التطور السريع في وسائل التكنولوجيا، تقاوم صناعة «الحصير» عوامل الانهيار والتراجع على الرغم من أنها أقدم المفروشات الأرضية التى عرفها الإنسان، أبدع فى أشكالها وتلوينها بالأشكال، التى تدخل البهجة والسرور، وظلت متربعة على عرش المفروشات لقرون طويلة، ومع التطور التكنولوجى وتطور الحياة، والاستعانة بأفخم أنواع السجاد والموكيت بدأت تلك الصناعة تنحصر فى زاوية صغيرة، ومهددة بالانقراض.

على بعد 2 كيلو من مدينة الزقازيق بالشرقية يقع كفر "الحصر"، الذى أطلق عليه هذا الاسم منذ مئات السنين لاشتهار سكانه بصناعة الحصير اليدوى وتصديره للخارج.

رحلة كفاح وصبر استمرت 68 عاماً مارس فيها الحاج حسن أبوعامر عمله فى صناعة الحصير «السمار» داخل ورشته الصغيرة فى مركز الزقازيق دون كلل أو ملل رغم اندثار المهنة وتراجع عائدها بعد انتشار الحصير البلاستيك ولم يبق من صنايعية المهنة غيره وزوج شقيقتة اللذان جمعتهما رحلة «العمل والكفاح».

انتقلت عدسة "أهل مصر" ورصدت كفاح صانع الحصر "السمار" وأبرز مشاكله حيث امتزجت المهارة بالكد والتعب والعرق ليخرج فى النهاية منتج من الحصير يتهافت عليه الزبائن.. جملة بسيطة تلخص رحلة كفاح الحاج حسن، 80 سنة، بدأ بها حديثه معنا، موضحاً أن الصناعة تركزت فى قرية كفر الحصر وتوارثها الأجيال حتى اكتسبت شهرة واسعة وصدرت المنتجات داخل مصر وخارجها خاصة إلى ليبيا، دخل الرجل الثمانينى فى لحظة صمت وكأنه يستعيد شريط الذكريات عبر سنوات طويلة مر أمام عينيه وكأنه شريط سينمائى، وواصل الحديث بأنه عندما كان طفلاً يبلغ من العمر 12 عاما اصطحبه والده لممارسة عمله وكان يرى جميع سكان القرية ينخرطون فى صناعة الحصير فى همة ونشاط، وتتزين وجوههم بابتسامة ساحرة بعد بيع منتجاتهم مع نهاية كل نهار وكأنهم يحصدون ثمار ما زرعوه طوال يومهم.

حسن وعبدالرحيم: «الحال اتغير والصناعة اندثرت وطول ما فينا نفس هنشتغل وربنا بيرزقنا»

الصانع العجوز أضاف قائلا: «قرية الحصر كانت الوحيدة التى تخصصت فى صناعة الحصير، ومن هنا أطلق عليها نفس اسم الصنعة التى اشتهروا بها فى فترة الخمسينات والستينات التى شهدت رواجاً كبيراً وغزت منتجاتهم جميع محافظات مصر حتى تم التصدير إلى دولة ليبيا حيث كان يحضر تجار من الإسكندرية يجمعون الحصير ويحملونه على سيارات نصف نقل ويتجهون بها إلى مقر عملهم وإعداده للتصدير إلى ليبيا»، التقط الرجل أنفاسه وأطلق تنهيدة طويلة، ثم قال: «الحال بقى غير الحال والصناعة اندثرت تدريجياً حتى اختفت من القرية وعزف الأهالى عن الاستمرار فيها وامتهنوا أعمالاً أخرى»، مشيراً إلى أنه لم يتبق من الصناع سوى هو وزوج شقيقتة الذى يكبره فى السن «عبدالرحيم أبوعامر الشرقاوى»، 87 عاماً.

يوم الرجل العجوز يبدأ مع أذان الفجر لأداء الفريضة وترديد بعض الأذكار حتى تسطع الشمس وتتسلل أشعتها الذهبية إلى غرفته عبر النافذة الضيقة لينهض ويتناول طعام الإفطار ثم يجلس مع أحفاده، ومع حلول الساعة الثامنة يتوجه بخطى متثاقلة إلى ورشته التى تبعد عن محل إقامته عدة أمتار فيجد زوج شقيقتة ينتظره بوجه بشوش كعادته ويبدآن ممارسة عملهما فى الورشة حيث يجلسان على النول ويرصان السمار ويعقدانه من الأطراف بحرفية السنين الطويلة، محاولين التغلب على شيخوختهما بالاستعانة بالله ليمنحهما القدرة على مواجهة متاعب الحياة.

ويوضح الرجل الذى اشتعل رأسه شيباً ورسمت التجاعيد الكثير من عناء السنين على ملامحه وكأنها نقوش فرعونية تسطر رحلة الكفاح الطويلة فى الحياة، مراحل صناعة الحصير، بالقول: «نستخدم فى الصناعة نبات السمار الذى نحصل عليه من مزارعين فى الفيوم، وهو نبات يوجد بشكل فطرى على جانبى المسطحات المائية مثل الترع والمصارف والبرك، كما تتم زراعته عن طريق الجذور، ونقوم بتقطيع النبات إلى عيدان تتراوح أطوالها ما بين 10 أو 50 أو 80 أو 100 سم» حسب الحصيرة التى يطلبها الزبون، وبعد ذلك يتم وضعها فى حوض به كمية من المياه حتى يكتسب المرونة اللازمة لنستطيع تقسيمه ووضعه على نول عبارة عن لوحين متساويين يتم شد خيط بينهما من الأطراف وهذا الخيط أنواع منه الكتان وغيره ويتراوح طول النول ما بين مترين وثلاثة.

ويضيف أن السمار يتم نسجه على النول بشكل السطور المنتظمة وتكون متساوية السمك وعند نهاية كل سطر يتم ربط نهايات السمار بعقد خاصة تجعلها غير ظاهرة لتظهر فى النهاية بشكل جمالى، مشيراً إلى أنه يتم إضافة بعض الألوان مثل «الأحمر والأصفر والأزرق والأخضر» لزركشة الحصيرة برسومات معينة تجعلها جذابة وتسر العين أكثر مثل الخطوط أو الأشكال الهندسية أو بعض الطيور والجمال وعادة ما تتوسط هذه الأشكال منتصف الحصيرة والقليل على أطرافها.

وتابع الرجل- الذى انخرط فى هذه المهنة منذ كان طفلاً يبلغ من العمر 12 سنة: «الحُصر كان يستعملها الأغنياء لفرش منازلهم أو تعليقها على الجدران، وكانت تُفرش بها المساجد حيث كان المسئولون والأهالى يطلبون من الصناع كميات كبيرة من الحصر لفرش المساجد بكافة محافظات مصر ويكون حجمها كبيراً»، لافتاً إلى أنها كانت تستخدم كمصلاة فى المنازل وعادة ما تكون صغيرة الحجم بخلاف استخدامها لفرش أرضيات المنازل.

وبنبرة تحدٍ وأمل قال إنه سيواصل العمل فى هذه المهنة حتى آخر يوم فى عمره، مضيفاً: «ماعرفتش مهنة غيرها، ورثتها عن أبويا وجدى وكنت إيد أبويا اليمين فى الشغل، خاصة أن شقيقى الأكبر فضل التجارة عن الصناعة وفتح محلاً فى بورسعيد لبيع منتجات الحصر»، وأوضح أنه لم يورث المهنة لأبنائه الذين انخرطوا فى أعمال أخرى بسبب قلة الطلب على هذه المنتجات من جهة وانتشار السجاد ومظاهر الحداثة وارتفاع تكاليفها من جهة أخرى، لافتاً إلى أن القنطار من «السمار»، 400 رتل، كان قديماً سعره بـ7 جنيهات وارتفع سعر المتر من الحصير من 7 جنيهات إلى 30 جنيهاً.

إقرأ أيضاً
WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً