قال الدكتور عباس شومان، أمين عام هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، خلال كلمته في مؤتمر دور وهيئات الإفتاء في العالم، إن الفتوى صناعة ثقيلة لا يجيدها إلا الراسخون في العلم.
وجاء نص الكلمة كما يلي:
إن الفتوى صناعة ثقيلة لا يجيدها إلا الراسخون في العلم، وهي باب عظيم مَن تسابق إليه فكأنما ذبح بغير سكين، أما مَن أُسند إليه فأخلص فيه النية والتزم بما ألزمه الشرع به، فقد غُفر له الخطأ والنسيان، وكان مأجورًا على كل حال؛ لقول النبي – صلى الله عليه وسلم: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد». وحتى يبرأ المجتهد من الإثم حتى في حال الخطأ في فتواه؛ فإنه يلزمه معايير خاصة أفاض فيها العلماء، ويمكن تقسيمها إجمالًا إلى معايير أخلاقية ومعايير مهنية:
فأما المعايير الأخلاقية، فمنها الورع والتقوى والزهد في الفتوى، والتحرر من الخوف وضغوط الواقع، والتجرد من الهوى والعصبية بشتى أنواعها، فيسوي المفتي بين المستفتين ولا يفرق بين غني وفقير، ووجيه ووضيع، فطبيعة المسألة وما يلائم حال السائل هما ما يجب أن يحدد طبيعة الفتوى الصادرة، ومن وصايا الإمام القرافي في هذا السياق قوله: «ولا ينبغي للمفتي إذا كان في المسألة قولان، أحدهما فيه تشديد والآخر فيه تخفيف، أن يُفتي العامَّة بالتشديد، والخواصَّ من ولاة الأمور بالتخفيف، وذلك قريب من الفسوق والخيانة في الدين، والتلاعب بالمسلمين، ودليل فراغ القلب من تعظيم الله تعالى وإجلاله وتقواه».
وأما المعايير المهنية التي يجب أن تتوافر فيمن يتصدى للفتوى، فمنها الأهلية العلمية التي تمكِّن المفتي من استظهار حكم الشرع في المسائل المعروضة عليه؛ فالإفتاء باب من القضاء، وقد قال رسولنا الأكرم - صلى الله عليه وسلم: «القضاة ثلاثة، واحد في الجنة واثنان في النار: أما الذي في الجنة، فرجلٌ عرف الحق فقضى به فهو في الجنة، وأما اللذان في النار، فرجلٌ عرف الحق فقضى بغيره فهو في النار، ورجلٌ قضى بين الناس على جهل فهو في النار»، ومن ثَمَّ فإن مجرد التصدي للإفتاء أو الفصل بين الخصوم على جهل وعدم تأهل، يكفي لدخول النار دون نظر إلى الفتوى أو الحكم الصادر؛ أي إن المفتي إن تصدى للإفتاء على جهل، فهو من أهل النار ولو تصادف أن ما أفتى به صواب!
ومن المعايير المهنية أيضًا، فَهمُ المسألة فهمًا دقيقًا، وفَهمُ نفسيةِ السائل وواقعه المعيشي، ومعرفة العُرف الجاري في بلد المستفتي. ومن الوصايا التي تُسطَّر بماء الذهب هنا قول الإمام القرافي أيضًا: «إذا جاءك رجلٌ من غير أهل إقليمك يستفتيك، فلا تُجْرِهِ على عُرف بلدك، واسأله عن عُرف بلده وأَجْرِهِ عليه، وأفتهِ به دون عُرف بلدك، ودون المقرر في كتبك، فهذا هو الحق الواضح. والجمود على المنقولات أبدًا ضلالٌ في الدِّين، وجهلٌ بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين».
ويلزم المفتي كذلك قبل أن يجتهد في المسألة المعروضة عليه أن يراجع فيها مصادر استنباط الأحكام من القرآن والسنة والإجماع واجتهادات السلف، غير أنه إذا وجد فيها حكمًا للسلف، وجب عليه أن ينظر في مدى ملاءمته لزمان الفتوى ومكانها، وأن يتأكد من صلاحيته لحال المستفتي وعدم وجود ما يغير إسقاط هذا الحكم على مسألة المستفتي في زمانه؛ فالسلف أنفسهم قد نهوا عن الجمود على ما اجتهدوا هم فيه، ووصفوا هذا الجمود بالضلال في الدين والجهل بمقاصد علماء المسلمين؛ وذلك لأن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان وأحوال الناس، ومَن يدقق في الموروث عن سلفنا - رضوان الله عليهم - في المسائل الاجتهادية، يجد مِن بينها ما لا يناسب زماننا ولا مكاننا، ومنها كثير من أحكام النساء كعمل المرأة، وتوليها الولاية العامة والقضاء، وسفرها من غير محرم أو زوج؛ حيث نجد مثلًا أن هناك اختلافًا كبيرًا بين حال السفر وقت اشتراط المحرم، وما نحن فيه في هذا الزمان، فإن كان اشتراط المحرم لعلة خوف الطريق؛ فقد زالت العلة في غالب الأسفار في زماننا.
ومن تلك المسائل الاجتهادية التي لا تناسب زماننا في رأيي، وجوبُ المهر كاملًا بالخلوة الصحيحة التي تكون بين المعقود عقد زواجهما قبل الدخول، وما يترتب على ذلك أيضًا كوجوب العدة على المرأة إن طُلقت قبل الدخول الحقيقي، وهو ما قال به جمهور الفقهاء قديمًا. والناظر يرى أن ثمة اختلافًا كبيرًا بين زماننا وزمان هؤلاء الفقهاء الذين قالوا بوجوب المهر كاملًا ووجوب العدة بالخلوة الصحيحة، ففي زمانهم كان الزواج بداية من الخطبة إلى الدخول ربما يتم في ساعة أو بعض ساعات أو أيام، فيكون مرادهم بالخلوة عندئذ تلك الخلوة التي تكون في بيت الزوجية بعد انتقال الزوجة إلى بيت زوجها، ولذا لا يكون هذا الحكم ملائمًا لوقتنا الحاضر الذي تكون فيه الخلوة بين المعقود قرانهما في بيت أهل الزوجة دون أن يحدث فيها دخول أو محاولة دخول، كما أن الشاب لن يكون مقتنعًا بدفع المهر كاملًا – الذي قد يكون عدة ملايين - نتيجة خلوة حدثت بينه وبين مَن عقد عليها، تحدثا فيها عن بعض أمور تتعلق بحياتهما المستقبلية، فاختلفا وتطلقا دون أن يقترب أحدهما من الآخر، ولا سيما أن كتاب ربنا يقول: «وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ»، ولن يكون من السائغ عقلًا وجوب عدة على المرأة بخلوة كهذه، وخاصة أن ربنا عز وجل يقول: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها»، فضلًا عن أن استبراءَ الرحم مِن أهم موجبات العدة، ورحم المطلقة بعد خلوة كهذه مما يحدث في زماننا لا يوجد أدنى احتمال لشغله.
وعليه، فإن نظر المفتي في مثل هذه المسائل ومعاودة الاجتهاد فيها، لهو عين التجديد الذي هو سمة من سمات شريعتنا الغراء، وهذا لا يعني التفريط في الثوابت التي لا تتغير بتغير الزمان ولا المكان، فمن واجب المفتي أن يتمسك بثوابت دينه ومُسلَّمات شريعته، ولا يخضع لهوى نفس أو سلطان، أو ينزلق إرضاءً لرغبات العوام ومطالبات سفهاء الأحلام حدثاء الأسنان!
وختامًا، أسأل الله أن يوفقكم أيها السادة ويسدد خطاكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.