بالرغم من أن الدين الإسلامي جاء ليحرر العقول من أسر الجهل وعبادة الأصنام، إلا أن النفس البشرية دائمًا ما تبحث عن مفتاح سحري يحقق لها كل ما تتمنى في غمضة عين، فتسير في طريق طويل من الجهل، فما بين لجوء البعض للدجالين ولجوء البعض الآخر لمقامات أولياء الله الصالحين مقتنعين أنهم قادرون على تحقيق أحلامهم، يسود الجهل والشرك بالله.
«الأضواء الخضراء والسبح والثوب الأخضر والبخور لزوم الشغل».. كلما مررت من ضريح أو مقام تجد المشهد السابق، فاللمبات التي تصدر ضوءًا أخضرًا أصبحت شرطًا للتعبير عن قدسية هذا المقام كنوع من الإيحاء الذي يستخدمه المسئولون عن الأضرحة للتأكيد على أن صاحب المقام رجل ولي صاحب كرمات يشع من قبره نور، وبالطبع انتشار رائحة البخور لأن صاحب المقام له رائحة عطرة دائمًا.
وكلما دخلت إلى أحد أضرحة آل البيت أو أولياء الله الصالحين، تشاهد العديد من الطقوس التي لا تمت إلى التدين بشيء، فتارة تجد سيدة تصرخ وتنادي صاحب المقام تدعوه ليستجيب لها، وتارة أخرى تطوف حول الضريح، بالإضافة إلى انتشار «الدراويش» بزيهم الأخضر والسبح التي تزين أعناقهم، ناهيك عن أصحاب الطرق الجديدة التي تتخذ المساجد والأضرحة مكانًا مناسبًا للترويج للطريقة الجديدة ولجلب مريدين جدد لشيخهم.
وبالطبع لم يقف أصحاب المصالح مكتوفي الأيدي أمام كل هذا المال المتدفق باسم الدين، فتجد الأضرحة المزيفة منتشرة في جميع أنحاء الجمهورية لتعبر عن مدى جهل العامة في ظل غياب تام من المسئولين.
وتنقسم الأضرحة والمقامات في مصر إلى ثلاثة أقسام؛ أضرحة آل البيت والصحابة وهي معروفة ومسجلة في وزارة الأوقاف ولها تاريخ طويل لا يغفل عنه أحد، وأضرحة لعلماء تابعين للطريقة الصوفية وتجدها متعددة، حيث إنك من الممكن أن تجد أكثر من ضريح للشيخ وتلاميذه معًا أو تجد أكثر من ضريح لنفس الشخص، وأضرحة مزيفة وهي موجودة بشكل كبير ودون حصر وأغلبها غير مسجل بوزارة الأوقاف وربما بناها البعض لوضع بها صناديق النذور لاستغلال حاجة الناس وهذا الأمر شائع.
«أهل مصر» اخترقت عالم الأضرحة والمقامات في أكثر من منطقة لمعرفة سرها وتتبع شخصية صاحب المقام وما أن كان هناك أحد مدفون فعليًا في المقام أم لا.
حقيقة وجود مقام «سيدي محمد أبو بكر الصديق» في القاهرة
حقًا إن مصر سميت المحروسة بسبب قدوم الكثير من آل البيت والصحابة إليها، حيث عاشوا واستقروا بها إلى آخر يوم في عمرهم ودفنوا بها، كما أن مدافن آل البيت والصحابة موجودة في أماكن مشهورة للقاصي والداني، إلا أنه على الرغم من ذلك انتشرت الكثير من المدافن والمقامات المنسوبة خطأ لآل البيت والصحابة، فأصبح من المألوف أن تجد أكثر من مقام للفرد الواحد.
في البداية اتجهنا إلى حي الدرب الأحمر للبحث عن أشهر الأضرحة، وفي شارع كنيسة الروم، بجانب مسجد الدعاء، يقع ضريح «سيدي محمد أبوبكر الصديق».
بمجرد السير في حارة الروم تجد الجميع يعلم قصة الضريح المبارك والذي يظن أهالي الحي أن صاحب الضريح ابن الصحابي الجليل وخليل رسول الله «أبي بكر الصديق»، حتى تصل أمام المقام والذي يوجد داخل زاوية صغيرة بها شرفة وباب.
في بداية الأمر رفض المسئول عن الضريح إدخالنا من الباب لزيارة المقام، لافتا إلى أن الزيارة تكون من خارج الشرفة التي توجد بها «صندوق النذور»، ولكن مع إصرارنا على الدخول متعلليين بأن لدينا الكثير من الحديث نريد أن نقوله لصاحب المقام والجلوس معه بمفردنا، استجاب المسئول عن المقام لرغبتنا.
وما أن فتح الباب لنجد صعوبة في المرور من الباب بسبب وجود تلال من قطع الحديد والمفكات وقطع الغيار داخل المقام، والتي لم يبرر المسئول عن المقام وجودها، وبالفعل وصلنا للمقام لنجد الأضواء الخضراء والبخور.
ربع ساعة مرت داخل المقام، نخرج بعدها لسؤال الأهالي الذين يعيشون بجانب الضريح عن قصته، فيقول صاحب ورشة تصليح الأحذية المقابلة للضريح، إن: «سيدي محمد أبو بكر الصديق أو محمد الصغير الابن الأصغر لأبي بكر الصديق صاحب رسول الله، جاء لمصر وعاش بها وهو أخوه، حيث إن هناك ضريح لأخيه الأكبر بدرب البرابرة».
فيما يقول صاحب محل بقالة بجانب الضريح، والذي تجاوز عمره الـ60 عامًا، إنه ولد وتربى في حي الدرب الأحمر، وهو متأكد أن صاحب الضريح هو محمد ابن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، مؤكدًا أن هذا الحي تربى وعاش فيه كثير من مشايخ الأزهر الذين يؤكدون أنه هو صاحب الضريح.
وفي الحقيقة أنه يوجد أكثر من ضريح داخل مصر بل ولم يبعدوا كثيرًا عن بعض لصاحب المقام، فيقول المؤرخ السخاوي في كتابه تحفة الأحباب وبغية الطلاب إن قبر محمد بن أبي بكر بظاهر مصر وهو معروف الآن بشارع باب الوداع ومعروف بسيدي محمد الصغير، كما يوجد له ضريح آخر بشارع حيضان الموصلي تجاه جامع سودون القصروي والمعروف بجامع الدعاء، كما أن هناك قبر لأخيه موجود في درب البرابرة من شارع الخليج البحري معروف بعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق المعروف بـ«ابن المغربل».
وكانت ولاية محمد بن أبي بكر على مصر خمسة أشهر وقتل في شهر صفر سنة 38 هجريًا، وهناك أكثر من مكان يقال إن به رأس محمد بن أبي بكر، ففي حارة الباطنية بالأزهر عند جامع سودون القصروي المعروف بجامع المدعي، ضريح في خلوة يعرف بضريح محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، وعليه تابوت مكتوب على كسوته اسمه «سيدي محمد تاج الدين الأربعيني».
«التصوف والزهد».. هو اتجاه جديد عرفه المصريون قبيل القرن الخامس عشر عن طريق الشيوخ المغاربة الذين جاءوا إلى مصر واستقروا بها ونشروا فكرهم وطرقهم، وعلى رأسهم السيد أحمد البدوي صاحب المقام الشهير في محافظة طنطا، وبالفعل اشتهروا شيوخ المتصوفة وأصبح لهم مدارس وطرق ومريدين، وتعددت الطرق الصوفية وتفرعت وظهر على إثرها الدراويش الذين كانوا يبالغون في الزهد .
يقع ضريح سيدي محمد الأربعيني، بحارة سيدي أحمد الدرديري بالباطنية، وهو واحد من شيوخ الصوفية، ويقول «محمود السيد» أحد الأهالي إنه واحد من تلاميذ سيدي عبد الوهاب الشعراني، واسمه الحقيقي «سيدي عبد الوهاب»، وقد عرف خطأ بمقام «سيدي إبراهيم الذاكر»، غير أن الأهالي أكدوا أن «إبراهيم الذاكر» مدفون في مكان آخر.
وتقول سيدة من سكان الحارة أنه قديما بنيت على الضريح قبة خلال العصر العثماني، ولكنها هدمت وهدم معها المقام، ثم أعيد بناء المقام على هذا الشكل الذي وجدناه عليه، والضريح عبارة عن غرفة صغيرة دون قبة.
مقام سيدي عبد الواحد.. حفيد الحسين بن علي
ومن الدرب الأحمر لشارع بولاق الجديد، حيث يقع ضريح سيدي عبد الواحد، والذي يعتقد أهل الحي أنه حفيد سيدنا الحسين رضي الله عنه، في محاولة منهم للتبرك والتواصل مع آل البيت .
في مدخل الضريح تجد كولدير مياه سبيل خاص بالمسجد الذي يوجد به الضريح، وعند الدخول للمسجد الذي لا يتخطى عدة أمتار وبه حجرة صغيرة مغلقة يوجد بداخلها الضريح .
يقترب «عم حسنين» بيده مفاتيح الحجرة ليفتحها لنا، لقراءة الفاتحة والدعاء، لنجد داخل الحجرة أكفان للموتى ومصاحف وأثواب بيضاء.
عم «حسنين العدوي» خادم الضريح بوجهه البشوش وبابتسامته المعتادة، يقول إن سيدي عبد الواحد هو حفيد سيدنا الحسين رضي الله عنه، موضحًا أنه ابن سيدنا علي زين العابدين .
ويتابع «عم حسنين» حديثه لــ«أهل مصر»، قائلا إن المكان به حالة من السكينة والاطمئنان تنتاب الزائر، معللا ذلك بنسب سيدي عبد الواحد وصلته بآل البيت.
ويستكمل الرجل الخمسيني حديثه، أن المسجد يقوم بأعمال خيرية لأهل الحي، فيقوم بتوزيع الأكفان والملابس كنوع من أنواع الصدقة على الفقراء.
أعمال تجديد مقام «سيدي الحريري» تكشف زيفه
لم نبتعد كثيرا عن مقام سيدي عبد الواحد، حتى نستدل من الأهالي عن ضريح سيدي الحريري، والذي يقع بشارع الخطيري بعد مفرق من شارع بولاق الجديد، والذي رفض المقيمون على الضريح الدخول له وتصويره، وعندما سألنا أحد الأهالي عن رفض المقيمون على الضريح تصويره، كانت المفاجأة عندما علمنا أن الضريح خالي لا يوجد به أحد مدفون، لافتا إلى أنهم عرفوا هذه الحقيقة قبل سنتين عندما أرادوا هدم المقام وإعادة بناءه ، ولم يجدوا رفات لصاحب المقام .
مقام سيدي إسماعيل الإمبابي.. الأساطير تلاحقه
ومن بولاق أبو العلاء إلى حي إمبابة، الذي عرف بهذا الاسم نسبة للشيخ إسماعيل الإمبابي، والذي يعتبره أهالي الحي بركة المكان، فيذهبون إليه مطالبينه بتحقيق أحلامهم، معتقدين أن هذا المقام المبارك مكان يستجاب فيه الدعاء .
يقع الضريح داخل مسجد شهير في منطقة «الكيت كات» بحي إمبابة، به غرفة يوجد داخلها ضريح الشيخ إسماعيل الإمبابي، وهو أحد شيوخ الصوفية ويعتقد العامة أنه أحد تلاميذ سيدي «أحمد البدوي» المدفون بمحافظة طنطا.
وترتبط قصة سيدي إسماعيل الإمبابي بعدة أساطير صوفية، حيث إنه جاء إلى إمبابة واستقر بها حتى توفي، وارتبطت بحياته عدة روايات أهمها أنه كان ابنًا لمتصوف من مريدي السيد البدوي شيخ طنطا، ونشأ ملازمًا للبدوي ولخليفته الشيخ عبد المتعال من بعده فأصبح من تلامذتهم ووُرِّثَ مكانتهم.
قدم إلى القاهرة ليستقر في بولاق ثم أوذي من أهلها فعبر النيل إلى الجهة المقابلة، وتقول الأسطورة التي يتناقلها السكان أنه «عدى البحر على منديل ولم يغرق»، وما زال بعض أهالي إمبابة والمريدين من مناطق مجاورة، يؤمنون بكراماته ويروون معجزاته ويزورون ضريحه للتبرك والتشفع لهم.
وكانت الاحتفالات بمولد سيدي إسماعيل الإمبابي تقام سنويا، إلى أن توقفت نهائيا بعد قيام ثورة 25 يناير، وكان المصريون سابقًا يربطوا تواريخهم بالأشهر القمرية، فموعد المولد هو العاشر من شهر بؤونة في التقويم القبطي، وهو نفس التاريخ الذي كان قدماء المصريون ينتظرون فيه دمعة إيزيس التي تنزل في النيل حزنًا على أوصال زوجها المقطعة واستمر الاحتفال بهذه الليلة التي عرفت في الثقافة الشعبية المتوارثة بـ«ليلة النقطة».
ألقت طقوس ليلة النقطة بظلالها على مولد الإمبابي فكانت المراكب الشراعية تملأ النيل في ليلة مولد سيدي الإمبابي احتفالا به، وحتى يومنا هذا تظل المنطقة المحيطة بضريح إسماعيل الإمبابي، المسماة بـ«كفر الشيخ إسماعيل»، أقدم الشواهد على تاريخ الضريح.
مقام «سيدي الحلي».. الرائحة الكريهة تتحدى البخور
ويأتي مقام «سيدي الحلي» كآخر محطة لـ«أهل مصر» في رحلة البحث عن حقيقة الأضرحة، وفي شارع أبو الفرج أحد أشهر شوارع حي «روض الفرج» والذي سمي بهذا الاسم نسبة للأتابك أبو الفرج أحد أتابكة العسكر في عصر المماليك، وفي شارع جانبي بمجرد أن تطأ قدمك حتى ترى السياج الحديد تزين الشارع ولافتة كبيرة مكتوب عليها «مقام سيدي الحلي».
وعلى الرغم من الأجواء التي سيطرت على المكان والتي تجعلك تحسب أن هناك تجهيزات لإقامة مولد في هذا المكان، إلا أن رائحة الأغنام والخراف التي ملأت الشارع وأمام مدخل المسجد الذي يوجد به الضريح عكست الصورة .
وما أن تصل إلى الباب حتى يستقبلك خادم المقام ليخرج المفاتيح ويفتح الحجرة التي بها المقام.. «سيدي محمد عز الدين الحلي»، ويقول خادم الضريح إنه يعمل هنا منذ عشرات السنين، حيث إنه توارث مهنته عن أباءه وأجداده.
ويتابع خادم الضريح حديثه، أنه كان يقام لـ«سيدي الحلي» مولد كل عام وكانت تذبح الذبائح أمام الضريح وهذا ما يفسر وجود الأغنام والماعز أمام الباب، وتوفى النذور، إلا أن كل هذه الطقوس اختفت مع الزمن، مؤكدًا أن مقام «سيدي الحلي» مكان مستجاب فيه الدعاء، وله العديد من الكرمات والمعجزات.
ويستكمل خادم الضريح حديثه، قائلا إن سيدي الحلي جاء إلى مصر منذ زمن بعيد هو وأخيه «الخضر» الذي له ضريح آخر في منطقة «رملة بولاق»، حيث إنهم جاءوا من المغرب في مركب صغير ليعيشوا في مصر، لافتا إلى أن هذا المركب والقنديل الخاص بسيدي الحلي موجودن بالسندرة الخاصة بالضريح، والذي رفض إطلاعنا عليهم.
ويقول خادم الضريح، إن سيدي الحلي كان رجل ورع زاهد عاش حياته في مصر متفرغا للعبادة، فأحبه المصريون وأقاموا له هذا الضريح بعد وفاته، وشاهدوا الكثير من كرماته حتى أصبح قبلة لأهالي روض الفرج والأحياء المجاورة لها.
والحقيقة لا يوجد سند تاريخي يعرف شخص «سيدي محمد عز الدين الحلي»، إلا أن الرواية تبدو مشابهة لكثير من روايات أصحاب المقامات التي تعود لمشايخ الصوفية والتي انتشرت في بر مصر كله فهو رجل مغربي وفرغ حياته للزهد والعبادة كعادة المتصوفين الذين جاءوا واستقروا في مصر منذ القرن الخامس عشر.
ويقول الدكتور جابر طايع المتحدث باسم وزارة الأوقاف، إنه بالطبع الكثير من الأضرحة والمقامات مسجلة في دفاتر وزارة الأوقاف، وهذه الأضرحة تتبع آل بيت رسول الله مثل ضريح سيدنا الحسين والسيدة نفيسة رضى الله عنهما، والكثير من أضرحة كبار الصحابة والتابعين الذين جاءوا لمصر وعاشوا بها.
وأضاف «طايع» في تصريح خاص لـ«أهل مصر»، أن الأضرحة تنقسم إلى قسمين، أولا: أضرحة بها وقفيات وتابعة لوزارة الأوقاف، وثانيًا: أضرحة أخرى تابعة لمشايخ الطرق الصوفية والمسئول عنها كبار مشايخ المتصوفة وأبرزهم الشيخ عبد الهادي القصبي.
وتابع الدكتور طايع حديثه، أنه لا يوجد إحصاء عددي لجميع الأضرحة في مصر، لافتًا إلى أن الإحصائيات العددية داخل الوزارة خاصة بالأضرحة الصحيحة، إنما الأضرحة المزيفة الوزارة غير مسئولة عنها.
من جهته يقول الدكتور عبد الهادي القصبي شيخ مشايخ الطرق الصوفية، إن هناك مجلدات كثيرة تحدثت عن أضرحة آل البيت والصحابة والتابعين في مصر وهي صحيحة ولها ثوابت تاريخية.
وأضاف «القصبي» في تصريحه لـ«أهل مصر» أن أضرحة مشايخ الصوفية وأولياء الله الصالحين مسجلة في الكثير من الكتب الصوفية والتي ذكرت سيرتهم الذاتية وحياتهم وزهدهم، والذين عاشوا وتوفوا ودفنوا في مصر وعلى رأسهم السيد أحمد البدوي في محافظة طنطا.
الدكتور محمود إبراهيم أستاذ الآثار والفنون الإسلامية بجامعة القاهرة، يرى أن كلمة ضريح يعادلها في قاموس اللغة كلمة مشهد؛ والفرق بين الضريح أو المشهد والقبر، أن المشهد هو مدفن ذات قبة وتعلوه زاوية صغيرة أو مسجد كبير وهو خاص بآل البيت أو الصحابة أو أولياء الله الصالحين، ويكون مفتوح لزيارة المواطنين، أما القبر هو عبارة عن لحد يدفن فيه الأشخاص العاديين.
ويضيف «إبراهيم» في تصريح خاص لـ«أهل مصر»: نحن في مصر لدينا عدة أنواع من الأضرحة أو المشاهد؛ فهناك أضرحة صحيحة من الثابت دفن صاحب الضريح فيها، وهناك أضرحة رؤية صممت خصيصًا للتبرك بصاحب الضريح ولا يوجد شخص مدفون بها، أما أضرحة آل البيت والصحابة والتابعين فهناك الكثير منها مسجل في وزارة الأوقاف كما أنه من الثابت تاريخيا وجودهم في مصر، فمثال بسيط مشهد السيدة نفيسة رضى الله عنها من الثابت تاريخيًا أنها جاءت إلى مصر وعاشت بها ومنزلها كان في نفس الموضع الذي بني فيه الضريح أو المشهد الخاص بها، حيث بني فوقه قبة ضريحية والموجود إلى يومنا هذا. كذلك فإن مشهد سيدنا الإمام الحسين رضى الله عنه، من الثابت تاريخيًا أن الرأس الشريف للإمام مدفونة في نفس الموضع الموجود فيه المشهد المعروف إلى يومنا هذا، لافتا إلى أن الرأس الشريف جاءت من عسقلان في صندوق في بداية قيام الحروب الصليبية، حيث جلبها الخلفاء الفاطميين خوفا من أن تقع في أيدي الصليبيين، ودفنوها في القبور الزائرة.
ويوضح أستاذ الآثار الإسلامية، أن هذه الجبانة كانت تتوسط القصر الفاطمي الخاص بالخليفة الفاطمي، حيث كانت هذه الجبانة خاصة بأسرة الخلفاء الفاطميين وكان يدفن فيها أباءهم وأبنائهم، وسميت بـ«الجبانة الزائرة» نسبة إليهم، ولكن في الأصل كان من المقرر أن يدفن الرأس الشريف للإمام الحسين في مسجد الصالح طلائع ابن راضية الواقع أمام باب زويلة، مشيرًا إلى أن النصوص الكتابية المنقوشة على جدران المسجد من الأعلى تؤكد على أن المسجد قد بني خصيصا ليدفن فيه الإمام الحسين، لكن حينما جاءت الرأس الشريف من عسقلان رفض الخليفة الفاطمي دفنها في في مسجد الصالح طلائع، وذلك لمكانة سيدنا الحسين لديهم حيث إنهم نسبوا أنفسهم للسيدة فاطمة الزهراء وبالتالي فمن غير المعقول دفن الرأس الشريف خارج أسوار القاهرة فيما أعد له.
ويتابع «إبراهيم» أن هذه الثوابت التاريخية يقاس عليها الآلاف من أضرحة ومشاهد آل البيت والصحابة والتابعين، فمثال الصحابي عمرو بن العاص رضى الله عنه جاء إلى مصر هو وأسرته ولم يغادروها وعاشوا وماتوا ودفنوا فيها، موضحًا أن الكثير من الصحابة الأوائل جاءوا إلى مصر هربا من حكام الدولة الأموية بعد أن تعرضوا للتنكيل على أيديهم، لأن مصر كانت في هذا الوقت بلد آمن سياسيا.
ويستكمل الدكتور محمود إبراهيم أستاذ الآثار الإسلامية، حديثه قائلًا إن الأضرحة التي تحمل أسماء لكبار الصحابة والتابعين من الأوائل وموجودة في ثنايا القرى الريفية؛ تسمى «أضرحة رؤية» أي أن أحد الأشخاص يرى أحد الصحابة أو التابعين أو واحد من أولياء الله الصالحين في منامه ويطالبه ببناء ضريح له، وبالفعل يقوم الشخص ببناء الضريح المزيف وينسبه للشخص الذي رآه في منامه، ثم تبني الناس مقابرها حول الضريح تباعًا وتلتف الناس حول الضريح للتبرك به مع مرور الزمن وفي النهاية يعتقد الناس أن صاحب المقام الذي بني باسمه مدفون فعلا فيه.
ويضيف أستاذ الآثار الإسلامية، أن الدراما ناقشت هذه الأضرحة المزيفة في الكثير من المسلسلات والأفلام، أما نحن كأثريين نرفض القرب من هذه المعتقدات حفاظًا على مشاعر الناس التي ارتبطت عاطفيًا بالضريح.
وأوضح دكتور محمود، أن أضرحة الصوفيين والمغاربة الذين جاءوا إلى مصر فهي كثيرة ومتعددة، فمثلا ضريح السيد أحمد البدوي في محافظة طنطا من الثابت تاريخيا أنه جاء إلى مصر وعاش ودفن فيها، وكذلك الشيخ إسماعيل الإمبابي في منطقة إمبابة وهو واحد من تلامذة السيد أحمد البدوي وهما من أشهر مشايخ الصوفية، أما أغلب الأضرحة المزيفة فمعظمها أضرحة حديثة، كما أن أغلب أضرحة المغرابة المنتشرة في جميع أرجاء مصر المحروسة تعود إلى المغاربة الذين جاءوا إلى مصر بهدف الوصول إلى مكة المكرمة في موسم الحج لقضاء الفريضة، حيث أن مصر كانت تمثل طريق الحج من شمال وغرب أفريقيا، لافتًا إلى أنه لم يكن هناك وسائل مواصلات حديثة في القرون الأولى والسفر كان بالجمال عبر الصحراء، وبالتالي كان الحجاج يمرون بمصر أولا ويستريحون بها قليلا ثم يستانفوا رحلاتهم عن طريق عيذاب إلى مكة المكرمة.
وفي رحلة العودة من الرحلة التي كانت شاقة بالنسبة للحجاج، كان أغلبهم يفضلون البقاء في مصر والاستقرار بها، وهذا يفسر وجود الكثير من الأضرحة للحجاج الذين جاءوا من بلاد الأندلس والمغرب العربي.
ولفت أستاذ الآثار الإسلامية، إلى أن مقام المرسي أبو العباس أشهر ضريح في محافظة الإسكندرية، هو في الأصل ضريح لأحد الحجاج الأندلسيين الذين جاءوا واستقروا بمصر على غرار تلك الرحلة، فاسمه أبو العباس المرسي نسبة لمدينة مرسية في الأندلس (أسبانيا)، وكذلك ضريح أبو الدرداء أحد أبرز مشايخ الصوفيين، والذي يوجد له ضريحين واحد في محافظة الإسكندرية والآخر في شارع الباطنية في القاهرة القديمة.
نقلا عن العدد الورقي.