بإجماع خبراء وزارة الري كانت فترة تعطّل مفاوضات سد النهضة تلك المرة في صالح مصر لا في صالح أثيوبيا، فالآية انقلبت ولم تعد القاهرة متلهفة لاستئناف المفاوضات ولم يكن وزير الري في حاجة لأن يحملق في الساعة ووكالات الأنباء منتظرًا قراءة أخبار بورصة السد ونسبة التنفيذ فيه.
القصة بدأت في عام 2013 حين أراد الرئيس عبد الفتاح السيسي سيناريو واقعي للتعامل مع أخطر تحديات أمن مصر المائي، وبدلًا من سياسة «التهويش والجعجعة» التي أتبّعها المعزول محمد مرسي واجتماعه الشهير الذي هدّد فيه بضرب أديس أبابا، كان الرئيس السيسي يدعو للقاء يضمه مع نظيريه السوداني والأثيوبي «ديسالين».
وفي مارس 2015 تم توقيع إعلان المباديء بين الدول الثلاث «مصر - أثيوبيا - السودان» وهو إعلان لتنظيم العمل في هذا الملف المائي الضخم، ونص على عدد من البنود لعل أهمها كان اعتراف القاهرة بأن سد النهضة سد للتنمية وليس للإضرار وهو أمر كانت تحتاجه أديس أبابا لإضفاء الشرعية على مشروعها الأثير دوليًا، فيما حصلت مصر في المقابل على شرط عدم ملء خزان السد الذي يتسع لـ77 مليار متر مكعب دون موافقة القاهرة وهو ما كانت تحتاج إليه حتى تضمن أمنها المائي وتضع عقبة لا يمكن تخطيها أمام أديس أبابا، هكذا كانت الصفقة.
سارت الأمور على هذا النحو وتم الاتفاق على بدء المفاوضات الفنية والمجيء بمكتب استشاري فرنسي ليحدد مدى الضرر الواقع على مصر أثناء فترة ملء الخزان باعتبار أثيوبيا منبع مياه النيل التي تصل إلى مصر آخر الدول في مسار النهر الخالد، كما ستكون مهمة هذا المكتب تحديد سنوات ملء الخزان، وفي عصر رئيس الوزراء السابق «ديسالين» سارت الأمور من سيئ إلى أسوأ، إذ ماطلت أديس أبابا كثيرًا في المفاوضات واللقاءات وفي ظل عدم وجود مادة تنص على وقف الإنشاءات لحين الانتهاء من المفاوضات كانت القاهرة هي ما تتحمل كل تأخير.
وبحسب الدكتور حسام مغازي، وزير الري السابق في حديثه لـ«أهل مصر»، فإن تأجيل المفاوضات مع استمرار المنشآت يعني كارثة، إذ أن التخوف الوحيد كان حين انتهاء المكتب الاستشاري من توصياته التي قد تشمل تعديل أي شيء في المنشآت، وقتها لن ترضى أديس أبابا بهدم أي جزء فالبناء الهندسي قد ينتهي كليًا في تلك الحالة، وبالتالي تصبح مصر أمام أمر واقع ويصبح إعلان المباديء حبر على ورق.
النفس الطويل
اتبعت مصر أمام سياسة التأجيل والتسويف، سياسة النفس الطويل مع تأكيد الرئيس السيسي في كل محفل أن قضية المياه حياة أو موت، وهي تصريحات يعيها قادة أثيوبيا جيدًا ويعرفون أنه لا تفريط في أي حق مائي بالنسبة للمصريين، لكن ما حدث في أثيوبيا خلال الأشهر الأخيرة قلب الأمور رأسًا على عقب وأعاد ترتيب الأوراق من أول.
البداية كانت بتظاهرات أثيوبية ضد رئيس الوزراء الأثيوبي «ديسالين» استمرت لمدة عام ونصف، كان على رأس مطالب المتظاهرين وقف التهجير القسري الذي فرضته عليهم الإدارة الأثيوبية وقتها بسبب سد النهضة بجانب أسباب أخرى مثل الديكتاتورية والفقر المتزايد، وظهرت طائفة «الأورموا» كأبرز المتضررين من هذا المشروع، وهي طائفة يبلغ عددها بحسب بعض التقديرات الأثيوبية 27 مليون أثيوبي ما يعني إنها تمثل رقمًا قويًا في معادلة الشعب الأثيوبي.
وقبل تلك التظاهرات وفي حملة لتطهير البلاد من الفساد شنها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، كان أبرز المتورطين رجل الأعمال السعودي «العامودي» والذي يعد الممول الرئيسي لسد النهضة، وحاولت الحكومة الأثيوبية أن تسعى لدى الرياض في الإفراج عن «العامودي» لكن لم تكن هناك أي استجابة، وفي وسط هذا كله فوجئ العالم أغسطس الماضي باستقالة رئيس الوزراء الأثيوبي «ديسالين» وتولي «آبي أحمد» المسئولية بمنظور جديد ولم يكن سد النهضة بعيدًا عنه.
بمجرد تولى «آبي أحمد» المسئولية كانت الأمور تبدو أنها ستسير في مسار آخر، وبالفعل هذا ما حدث فمع أول خطب رئيس الزراء الأثيوبي الجديد، أعلن أن سد النهضة أمامه 7 سنوات وليس ثلاث كما أعلن سلفه «ديسالين»، تلك كانت البداية قبل أن تكتمل المسيرة بحملة فساد طالت شركة «ميتيك» المشرفة على إنشاءات السد مما أدى إلى توقف الأعمال منذ أربعة أشهر في سد النهضة وحتى الآن، هي المدة التي صبّت في صالح مصر.
وبالتزامن مع توقف الإنشاءات توقفت مفاوضات سد النهضة، وكما كشف مصدر داخل اللجنة الفنية للمفاوضات لـ«أهل مصر»، فإن هذا التأجيل سببه الخلاف بين رغبة أديس أبابا التي تريد ملء خزان السد في سنة واحدة، ورغبة القاهرة التي تريده في 7 سنوات، أما مقترح السودان بأن يتم الملء خلال 3 سنوات لم يلقى توافق حتى الآن رغم طرحه منذ خمسة أشهر.
«أثيوبيا تطلب ودّ مصر» يمكن وضع هذا العنوان لما يحدث حاليًا، فبحسب المصدر ذاته، هناك تغيرات في الجانب الفني الأثيوبي فقد بدا أسهل خلال الفترة الماضية من الحوارات المتبادلة، كما أشار إلى أن أثيوبيا أميل للموافقة على اقتراح السودان بملء الخزان خلال ثلاث سنوات عكس الماضي أما القاهرة فهي متمسكة لآخر نفس بمطلبها وهو الملء خلال السبع سنوات.
كما أكد المصدر، أن استئناف المفاوضات لا يعود إلى أثيوبيا وحدها، بمعنى أدق فأديس أبابا تريد على الأقل استئناف العمل في السّد حتى يكون موقفها قوي في الجلسة المقبلة من المفاوضات والمفترض عقدها قريبًا بحسب تكهنات مراقبو الملف المائي، كما تريد أن يكون هناك موافقة ضمنية مصرية على اقتراح السودان، وربما لذلك السبب كان هناك زيارات لوزير الخارجية سامح شكري إلى أديس أبابا.
السد التنزاني
ما زاد من «طلب الود الأثيوبي» تحركات القاهرة في القارة الإفريقية خلال الفترة الماضية والتي دشنت فصلا جديدًا من العلاقات المتينة والريادة المصرية للقارة السمراء، ذلك ظهر جليًا في مشروعات وزارة الري في أوغندا لحمايتها من الفيضان شرق العاصمة الأوغندية، وساهم في هذا المشروع عدد من خبراء الري المصريين أثبتوا نجاحهم على نظرائهم العالميين، بجانب مشروعات أخرى في السودان وكلها مشروعات تقدمها مصر تطوعًا دون مقابل للدول الإفريقية.
السد الأوغندي
«سد ستيلجر» الأوغندي يمكن النظر إليه كحلقة ضمن تلك السلسلة وإن كانت الأبرز، إذ أن السد كبير مقارنة بغيره من السدود الأخرى، ولم تكن مساهمة مصر فيه عادية بل يمكن القول إنه سد مصري خالص بداية من خبراء الري الذين أكدوا على مساعدتهم ومشاركتهم الرسمية في ذلك ووصولًا لوزارة الكهرباء التي ذهب وزيرها الدكتور محمد حامد شاكر لتوقيع عقد شراكة من أجل إنجاز هذا السد، وبالطبع لا يمكن إغفال وجود المهندس مصطفى مدبولي رئيس مجلس الوزراء على رأس الوفد المصري الذي وقع عدد من الاتفاقيات في أوغندا أثناء تدشين هذا التعاون الثنائي.
وأكد الدكتور محمد عبد العاطي، وزير الموارد المائية والري، أن مساعدة مصر في بناء هذا السد يأتي من دور مصر تجاه الدول الإفريقية، خاصة أن السد الجديد لا يؤثر على حصة مصر من نهر النيل.
خسارة أديس أبابا
الدكتور نادر نور الدين خبير المياه الدولي يرى أن مساعدة مصر للدول الإفريقية خاصة فيما يتعلق بسد تنزانيا «ستيلجر» أكبر دليل على الخسارة التي خسرتها أثيوبيا بسبب عدم تعاونها مع القاهرة في عصر رئيس الوزراء الأثيوبي «ديسالين» إذ أن مصر عرضت المساهمة في إنشاء هذا سد النهضة لكن أديس أبابا تخوفت من ذلك الأمر ورفضته وأوضحت الأيام كيف أن القاهرة كانت على حق خاصة أن الفساد في إنشاءات سد النهضة كان كبيرًا بحسب تصريحات رئيس الوزراء الأثيوبي «آبي أحمد».
كما أوضح «نور الدين» في حديثه لـ«أهل مصر» أن تلك العودة الإفريقية وفك التحالفات الأثيوبية القديمة التي تكتلت في وقت ما ضد مصر جعل الكثير من معادلة المفاوضات تتغير فمصر لم تعد في الموقف الأضعف كما كان الحال، بل يتوقع «نور الدين» أن تطلب أثيوبيا مساعدات مصر خلال الفترة المقبلة فيما يتعلق بإنشاءات سد النهضة.
نفس الأمر يتفق معه الدكتور ضياء الدين القوصي، عضو اللجنة الفنية السابق لسد النهضة، الذي يشير إلى أن تصريحات رئيس الوزراء الأثيوبي السابق «ديسالين» خلال الأيام الماضية تصريحات إيجابية عن القاهرة ، بجانب زيارته للعاصمة الإدارية، أبرز الأدلة على أن هناك نهج جديد في أديس أبابا قد يؤدي إلى نتائج أفضل خلال الفترة المقبلة، لكن الفيصل في الأمر عقد المفاوضات للإنتهاء من أي مشكلة.
كما أوضح «القوصي» أنه يتوقع أن يتم التوصل لتسوية في ملف سد النهضة من خلال المفاوضات السياسية لا من خلال المفاوضات الفنية أو المكاتبات بين الوزراء والفنيين، فبعد ثلاث سنوات تقريبًا من المفاوضات لا يوجد تقرير استهلالي حتى عن تصور الخبراء الفنيين وهذا أكبر دليل على فشل هذا المسار.