... ولكنكم تستعجلون

نعلم أن حال المواطن يُرثَى له، ولكن لأننا أعظم شعب لديه ذاكرة الذبابة؛ فإننا دائمًا ما ننسى الأيام الخوالي، عندما كانت مصر أكبر سوق عشوائي للبلطجية الجائلين في كل المجالات السياسية والشعبية والإعلامية والدينية، وغيرها مما يفوق الحصر.. وكان السؤال المطروح بإحباط: من يقدر أن يعيد الشعب لبيته؟

عصر مغولي تتري يأجوجي مأجوجي عشناه بأعصاب ملتهبة؛ خوفًا على أنفسنا ونسائنا وأطفالنا وبيوتنا، وكانت تراودنا بين لحظة وأخرى هواجس الهجوم عليها واقتحامها.

هذه الفترة الحالكة مرت ونسيناها.. نسيناها لأنها مرت.. ونسينا أيضًا من أجاب ذلك السؤال المُحبَط، والذي قدر أن يعيد الشعب لبيته.

نسيناها لأننا كما ذكرت نمتلك ذاكرة ذبابية مذهلة.

لكني لا أزال أذكرها وأذكر الاستموات في النفخ في روح الفوضى التي لو استمرت، فإنها "لا تُبقِي ولا تَذَر".

وتصورنا، أو توهمنا، أن تلك الإجابة التي أعجزت خبراء وعباقرة السياسة، وكادت أن تشمت بنا العالم، والتي أحبطتهم بعد تجاوز الدهليز المعتم، يمكن أن تأتي مجانًا، رغم أن من ينفث فينا اليأس لا يرمش دون القبض مقدمًا.

ورغم أننا في عالم مفتوح، والأخبار من حولنا عن دول تدمر، إلا أن أعيننا عميت عن أن ترى إلا أننا في ضنك اقتصادي، والحكومة خاربة البلد، ووو...

من عاش تلك الفترة من الفوضى يدرك جيدًا كيف كان الحال، وإلامَ صار.

لكن شياطين الإنس - أعاذنا الله منهم- أبوا إلا أن يزينوا لنا الخطيئة الوطنية على أنها نضال وتصيد الأخطاء على أنه معارضة، رغم أن أكبر "بق" فيهم لا يقدر أن يقود ميكروباص، فكيف يقود دولة إلى بر الأمان؟!

من يعرفني جيدًا يعي أني لا يعنيني إن كان كلامي يوافق مذهبك، فيعجبك، أو يخالفه فيغضبك، فأنا أكتب ما وقر في قلبي، واستقر عليه عقلي.

ومع ذلك لا بأس أن نشطح بمخيلتنا، ونسأل: لو تولى زمام الأمور أحد أصحاب "البقاق" الكبيرة والصدور العريضة، كيف كان سيؤول بنا الحال؟

الدولة الآن يعاد بناؤها وسط أمواج تعصف بالدول والأنظمة، ولأنه لم يشعرنا بهذه الأمواج؛ كان المقابل هو الجحود،

لماذا نتغافل أن الخريطة يتم تمزيقها؟ وأن الهدف الأول والأساسي هو إسقاط مصر أو إفناؤها، وهو ما كتبته في 2008 بأن مصر في حرب؟ لماذا نتغافل أن العدو الخارجي يستعين بخونة من الداخل؟ لماذا ننسى دائمًا أن مصر غير كل دول العالم، جيش أسس دولة؟

لماذا نسينا أن أمريكا في فترة المجلس العسكري أصدرت أوامرها بتوجيه ضربة عسكرية لمصر؛ حيث وجدت الفرصة سانحة وقتها ورجالها يعيثون في مصر فسادًا في بيئة الفوضى التي نثروها؟ هل تساءلنا: ما الذي ألغى الأمر العسكري، وأعاد البارجتين الأمريكتين بعد دخول مياهنا الإقليمية والاستعداد لضرب مصر؟

هيلاري كلينتون ذكرت هذا في كتابها، حيث فوجئت أمريكا بدفاعات كفيلة بصد أي هجوم حتى لو من أمريكا.. وتساءلت كلينتون: كيف لم تلتقط أقمارنا الصناعية هذه الدفاعات؟ ومتى وُجِدت أصلاً؟

ورغم هذا لم يسعَ المجلس العسكري لـ"شو إعلامي"، وانتهى الأمر؛ لهذا نسيناه.

ما يفعله الرئيس هو إعادة بناء دولة تَسلَّمَها بورًا، كما فعل مبارك بإعادة بناء الجيش بعد تدميره في 67، وواهم من ظن أن إعادة البناء لن تكون لها فاتورة.. ولكن المنتفعين والمرتزقة يُشهِّرون بالفاتورة، ويغفلون عما يتم ونراه جميعًا من حولنا.

لقد نجح السيسي في أن يجعل مصر حرمًا آمنًا، ويُتخطَّف الناس من حولنا، ولم يكن بالأمر الهين.. فالأمن الداخلي باستقرار البلاد كان مستحيلاً، والأمن الخارجي بحماية الحدود من أي اختراقات كان أيضًا مستحيلاً، وتحقق المستحيلان، وتحقق معهما استقراران: إعادة البناء من الداخل، وترميم العلاقات بالخارج، والتي فسدت مع بعض الدول ذات الثقل، وهو ما تم على أكمل وجه. كل هذا نريده وفي ظروف بالغ التعقيد مجانًا؟!

قديمًا قال عنترة بن شداد "إنما النصر صبر ساعة"، والساعة في بناء الدول مكلفة جدًّا، لكن بعدها تأتي الثمار، ونحن في بلد العجائب نريد أن نجني الثمار قبل أن نغرس، بل دون أن نغرس أو نفكر في الغرس أصلاً.

لا أعتقد أن ما فعله الرئيس بتحويل منطقة غيط العنب بالإسكندرية كمثال من مقلب شعبي إلى حي راقٍ، وفرش الشقق بأثاثات تليق بحياة كريمة، وتسكين البسطاء فيها ببعيد، ومثله حي الأسمرات، وغيرهما من المناطق.. ناهيك عن الطرق التي ربطت البلاد، ووفرت الوقت، وتسليح الجيش بأحدث وأقوى الأسلحة، وكسر احتكار دولة على بيع السلاح لنا.. كل هذا لا يمكن أن ينجزه الرئيس ببركة دعاء الوالدين، بل إن هذه المشاريع وغيرها الكثير تتكلف المليارات، وهي ما تأتي على المواطن بضائقة اقتصادية، لكن بعدها ستكون الانفراجة التي تليق بمصر، وترفعها لمصافِّ الدول العظمى، وما الفرج ببعيد، وإن كان البعض وصف ما يفعله السيسي بعصر عبد الناصر، فإني أرى أننا نعيش عصر محمد علي، ولكن بشكل أكبر وأشمل وأنضج؛ ما يؤكد أننا قادمون على دولة عظمى، رغم كل الضائقات التي تمر، وستمر، ولكنكم قوم تستعجلون.

إقرأ أيضاً
WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً