أن تكون صامتًا

صديقي يعمل مهندسا زراعيا، هو شخص محب لعمله ويتفانى فيه لدرجة أنه يظل الليل ساهرا من التفكير فيه، تخرج وحمل همومه على كتفه باحثا عن عمل، أخذ يجوب الأرض من شرقها إلى غربها، يضرب في الأرض بحثا عن الرزق، يحلم بأحلام بسيطة، ويتمنى حقوقا آدمية، يحلم بوظيفة ويتمنى الزواج والاستقرار بعد أن صفعه الحب أكثر من قلم على وجهه،

يقول لي صديقي: في حياتي لا أحب الثرثرة دون داعي، أهوى الاستماع أكثر من شهوة الكلام لكني أعشق الجلوس إلى من تكون عندهم شهوة الكلام أشعر وقتها أنهم أزالوا حملا ثقيلا من على كتفي وهو أن أتحدث ويسمعني الآخرون، أن تكون صامتا فهذا شيء مفيد جدا لصحتك لأنك تكون بمنأى أن تجهد وتفسر وتتحدث وتنظر، مفيد لأن تقرأ أفكار الآخرين وتكشف تقاسيم وجوههم، يسفر لك الصمت عن ما وراء الكلام وما يريد الآخرون البوح به ولكنهم لا يستطيعون، كنت صغيرا أحب الصمت ولا أتحدث دون طلب من الآخرين، وصرت كبيرا أيضا بنفس الصفة، ما أجمل أن ترى الجميع يتكلم وأنت صامت تبادلهم بابتسامات على نكات يخرجونه من أفواهم، تنظر إليهم بعيون ثاقبة، شببت على هذا الصمت الملازم لي ولكني في أحيان كثيرة أجده يقف عائقا عن أشياء أتمناها وتذهب بعيدة عني بسبب صمتى، الكلام مهم والأهم أن يكون صوتك عاليا حتى لو سبب ذلك إزعاج للآخرين، يضيف صديقي: أحببت مرتين ولكني لم أستطع البوح نظرا لخجلي، كنت مؤمنا بمقولة "من القلب للقلب" والحب تفضحه العيون، حتى أتى آخر وتزوج من الذي أحبها وأنا أنظر إليها من بعيد.

كلام مهم، حرك داخلي تساؤلات عدة، أهمها هي هل فعلا الصمت لغة العظماء أم الجبناء، هل الخجل مطلوب أم لا، هل يجب على المرء أن يتحلي بـ«الليونة» التي نعرفها كمصريين بمعناها الحقيقي سواء في العمل أم في سائر حياتنا، أم أنه يجب أن يعمل في صمت ويتابع في صمت ويجتهد في صمت ويحب في صمت ويقضي حياته كلها وهو صامت.

حقيقة مرة، ولكن يجب أن نعترف بها خاصة في مجتمع كالذي نعيش فيه، الصمت «راحت عليه» وما عاد له جدوى، وبمناسبة الصمت وفي خضم إحياء مئوية الكاتب إحسان عبد القدوس، تابعت رائعته «لن أعيش في جلباب أبي»، وجدتها معبرة عن تساؤلات صديقي، عبد الغفور البرعي عامل بدأ حياته في وكالة المعلم «سردينة» ولكنه ما ميزه عن غيره أنه تخلى عن الصمت، ستقول لي إنه اجتهد وكافح، نعم اجتهد وكافح كغيره من ملايين البشر ولكن ما ميزه أنه لم يصمت، كان يتحدث في كل صغيرة وكبيرة في عمله وغير عمله فلازم المعلم «سردينة»، وفي مشهد يقول له «مرسي» رئيسه في العمل: «سيبك من شيشية الحاج وتعالى نشوف شغلنا»، فقال له عبد الغفور: «ومزاجك الحاج ما هو شغلنا برضه؟!»، مزاج الحاج هو مربط الفرس وهو أساس الحكاية، مزاج الحاج هو من وضع عبد الغفور على أول الطريق، ومزاج الحاج كان «الشيشية» و«الرغي» عدو الصمت، نجح عبد الغفور وصار مليونيرا لأنه تميز بثلاث «رغي» و«اجتهاد» وما بينهما «ليونة» مع الحاج.

دنيا لا تحتاج إلى صمت، ولكنها تحتاج إلى «رغي» قبل الاجتهاد، تحتاج إلى «ليونة» قبل الالتزام، أما من يعيش صامتا فحزنه سيكون في صمت وحبه في صمت وفرحه في صمت ليموت في صمت من كل صمت «ومش هيلاقي حد يصوت عليه عشان بيحب الصمت».

إقرأ أيضاً
WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً