العقل هو الأمانة، والسر الأعظم الذي أودعه الله بداخلنا. وجميع الأديان جاءت لترقى بعقول أتباعها. والتعاليم الدينية الصحيحة تحثنا على وجوب إعمال عقولنا، والسير وراء قراراتها؛ ولذا فإن العقل والنقل شقيقان لا يفترقان أبدًا. ونحن مأمورون بأن نقدم العقل في كل شؤون حياتنا (الدنيوية والدينية)، ولا نرضى بغيره بديلًا.
جميع الأديان جاءت مؤكدةً أن «الله لا يُعبد على جهلٍ»، وأن تغييب العقل هو منبع الجهل. إن الله الذي خاطب سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- عند مقتبل نزول الوحي، قائلًا: «اقرأ». وضع بهذا دستورا سماويا لهذه الأمة «أنتم أمة العلم والعقل؛ فكونوا كما أمرتكم».
وحين يجادلك أحدهم، ويدعي أن النقل عدو للعقل، وأن العقل شيطانٌ، و....، و....، اسأله: كيف لدين أضاء الدنيا بالعلم ومنح العقل لواء السيادة، أن تصطدم نصوصه بالعقل؟ كيف لدين جعل من التفكر والتدبر والتعقل «فريضة»، أن يأمر أتباعه بتغييب العقل؟ ثم اطلب منه أن يأتيك بدليل وبرهان من القرآن أو السنة الصحيحة يؤكد أن العقل والنقل عدوان، وأن العقل شيطانٌ.
وإذا سألك أحدهم: وماذا إذا تصادم العقل مع النقل؟ أيهما يحكم؟! ودون تردد قل له: العقل يحكم، وهو مُقدمٌ في كل الأحوال، لأن العقل سيدٌ وغيره تابع. وقد عد الإمام محمد عبده «النظر العقلي لتحصيل الإيمان» الأصل الأول من أصول الإسلام، كما عد «تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض» الأصل الثاني من أصول هذا الدين الحنيف.
يقول الإمام محمد عبده، في كتابه القيم «الإسلام دين العلم والمدنية»: «أول أساس وُضع عليه الإسلام هو النظر العقلي. والنظر عنده (أي الإسلام) هو وسيلة الإيمان الصحيح، فقد أقامك منه على سبيل الحجة وقاضاك إلى العقل، ومن قاضاك إلى حاكم فقد أذعن إلى سلطته. فكيف يمكن بعد ذلك أن يجور أو يثور عليه؟».
أما عن أن تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض، هو الأصل، فيقول الإمام: «اتفق أهل الملة الإسلامية -إلا قليلًا ممن لا ينظر إليه- على أنه إذا تعارض العقل والنقل أُخذ بما دل عليه العقل، وبقى في النقل طريقان: طريق التسليم بصحة المنقول مع الاعتراف بالعجز عن فهمه، وتفويض الأمر إلى الله في علمه؛ وطريق تأويل النقل مع المحافظة على قوانين اللغة حتى يتفق معناه مع ما أثبته العقل. وبهذا الأصل الذي قام على الكتاب وصحيح السنة وعلم النبي -صلى الله عليه وسلم- مُهدت بين يدي العقل كل سبيل، وأزيلت من سبيله جميع العقبات، واتسع له المجال إلى غير حد».
إن هذه الأمة لم تتقدم وتتسيد ركاب الأمم إلا حينما خضعت لسلطان العقل، وحكمته في جميع شؤونها، وكانت الثمرة تاريخًا مجيدًا من الفتوحات العلمية في الطب والفلك والهندسة والفلسفة ومختلف مجالات البحث العلمي التي جعلتنا -حينئذ- «متبوعين» لا «تابعين»، وللأسف نحن لا نُجيد في عصرنا الراهن سوى البكاء و«الولولة» على هذا التاريخ، دون أن نسأل أنفسنا: لماذا تقدم السلف وتقهقرنا نحن؟ والإجابة برأيي تتلخص في جملة واحدة: «أمةٌ بلا عقل.. أمةٌ بلا هوية».