بداية ينبغي أن نفرَق بين شيئين في اللغة بصفة عامة، وهما المعنى والمبنى، فالمعنى مرتبط بعملية التفاهم بين مستخدمي هذه اللغة، و ما جُعلت اللغةُ ولا اختلفت الألسُن إلا باختلاف فهوم مستخدمي معانِ معينة، جعلوها فيما بينهم ليستمر تواصلهم ويفهم كل منهم عن الأخر قوله ومراده في مجتمع معين ومكان معين يتغاير عن الأخرين وليس دائماً الجذر اللغوي هو الأصل في الفهم وحده.
والشيء الثاني هو المرتبط بالمبنى، فالمبنى هو أصل الكلمة ومادتها ومنشأها من حيث جذورها وفروعها، ثم بعد ذلك يتم التقعيد لها وفق ذلك واستخدامها وفق معناها المتأصل في أحد جذورها أو فروعها، بل واستحداث كلمات لتتواكب وفهوم العصر الذي يعايشه مجتمع أو عصبة أو قبيلة أو قوم ما في مكانٍ ما.
ولنضرب أمثلة لذلك وليعذرني القراء في هذه الأمثلة والتي استوجبتها الضرورة لإيضاح المقصود.
فمثلاً كلمة " القحبة" يعتقد الناس جميعهم أنها كلمة سيئة ولا ينبغي التفوه بها أمام الناس عامة والنساء خاصة، وهذا أيضاً مقبول عندي بسبب الفهم الذي خلعته عليها الحقب التاريخية المتعاقبة وفق الاستخدام بناء على التفاهم بين الناس و التوافق على إقرار هذا الاستخدام.
ومعناها الأصلي وفق جذورها هو السعال يشتد بالرجل أو المرأة أو الفرس أو الجمل من بردٍ شديدٍ أصابهم، كما ذكرت المعاجم.
و مع الاستخدام صارت منكرة عند العوام، فهي تعني وفق الاستخدام الحالي، المرأة البغي و هي التي كانت تقف على قوارع الطرق لتسعل معلنة بغائها لمن أرادها.
و لعل من يسافر إلى بلاد المغرب العربي وبخاصة تونس والمغرب، يسمع من العوام قولهم إن فلانا قد قحب أي سعل والمرأة قحبة أي سعلت و عطست كثيرا.
و هناك الكثير من مستغرب اللغة عند الناس هو فيها أصل و جذر لا يسعنا ذكره.
و لعل ما دفعني إلى كتابة هذه التقدمة عن فرعي الكلمة معنىً و مبنى، هو جواز استحداث الكلمات الغريبة عن اللغة العربية و استخدامها عند العرب سواء الأقحاح منهم أو المحدثين، وهو ما يعرف بالتعريب، وهو معلوم منذ القدم ومقبول عند علماء اللغة ابتداءً من أبي الأسود الدؤلي وهو من تلاميذ سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه واستقى علم النحو منه، و الذي خاطره خلط العجم مع العرب عند دخولهم في الإسلام، فشرع في كتابة و وضع قواعد اللغة العربية كما نراها الأن و ندرسها.
وهناك نوعان من العرب وذلك معلوم للباحثين، وهما العرب العاربة البائدة والعرب المستعربة الباقية، ولعل ذلك يظهر بجلاء في الشعر الجاهلي وإن كان هناك تعليق عليه و على ما وصل منه إلينا ومدى صحته من عدمه وفق نوعي العرب وبطونهم من قيسية و يمنية و مضرية واتفاق ذلك مع القرآن الكريم العربي اللسان من عدمه و لكن ليس هذا مقامه.
و البعض يريد تحويل المفاهيم وفق فهمه الخاص فقط و يستدل خطأً ويغير قواعد اللغة لأجل ذلك، فبعضهم يقول" إن الإنسان يفكر كما يتكلم" و هذا خطأ بينٌ عواره، إذ الصحيح أن يفكر الإنسان قبل أن ينطق ويتكلم، حتى يخرج الكلام من فيه على وفق الحاجة و المراد منه حيال من يخاطبه، و إلا لكان الأمر جللاً والخطبُ عميم.
ومن ذلك حديثه صلى الله عليه وسلم" إن الرجل ليقول الكلمة من سخط الله تعالى لا يلقي لها بالاً فتهوي به في النار سبعين خريفا" لا يلقي لها بالاً أي لا يفكر فيها قبل التفوه والنطق بها.
فهل يصح أن نفجر قنبلة بوضع عناصر كيميائية معا دون التفكير في نتائجها وفق قواعد استخدامها؟! بالقطع لا.
إذن، فالإنسان العاقل يتكلم بعد أن يفكر أولاً، ولا مانع من مستحدث الكلمات و إدخالها على لغة ما، و من ذلك المستحدث لغة و قوبل بالرضا عند علماء اللغة، كلمة الحاكمية، وهذه لها مادة أصلية و هي "ح ك م" و معناها الاحتكام وفق قواعد معينة لتسيير معانٍ معينة تظهر أفهاماً معينة، سواء في الدين أو الدنيا، ولكنها مشهورة الاستخدام مع الديانة الإسلامية خاصة دون غيرها بسبب احتكام المسلمين وفق إيمانهم إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم.
و لا غبار لغوي على استخدامها معنى و مبنى، مثل قبول اللغويين العرب لاستخدام كلمة قومجي وهم المنتسبون للقومية أياً كانت عربية أو غربية، مع العلم أن تنسيب الكلمة وتذييلها ب" جي" هذه من أصول اللغة التركية، مثل عربجي وهو قائد السيارة و بلطجي وهو القاطع بالفأس وحديثاً المجرم، وكبابجي وهو بائع الكباب وكلها لغة تركية.
والخلاصة، إن محاولة نفي تأصيل الحاكمية في اللغة العربية لا يجعلنا نبني عليها أحكاماً بأن معانيها ومقتضيات استخدامها مرفوضة من الشرع الإسلامي الحنيف في عملية الاحتكام فقط إلى أوامر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في تسيير أمور حياة المسلمين.
وأما إشكالية فهم الحاكمية من منطلقٍ تكفيري فهذا موضوع أخر ولعل المقصود هنا كتابات سيد قطب ومفهومه حول الحاكمية.
وهذا كان ردي على الحلقة الأولى من سلسلة مقالات نشرها موقع " أهل مصر" الموقر مؤخراً، لإيضاح بعض الأمور الهامة لُغويا.