اصحى يا نايم وحد الدايم.. رمضان كريم، بهذه الكلمات التي يرددها "المسحراتية" بإيقاع غنائي وصوت شجي، يملأ أرجاء المكان بأنغام ندية مُفرحة، تُنبىء بحلول شهر رمضان الكريم، فتدخل البهجة والسرور إلى البسطاء والغلابة، حيثُ يجتمعون في ساحات الشوارع، ومن مشربيات بيوتهم للاستماع والاستمتاع بصوت طبلته وكلماته.
ويعتبر المسحراتي من أشهر المهن التي تُميز الشهر الفضيل، ظهرت في عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم ولكن دون الطبلة، إذ يسير المسحراتي وهو يتلو بعض الألحان، وفي العصر العباسي كان ينشد شعرًا شعبيًا يسمى "القوما" طوال ليالي رمضان، أما بداية ظهور الإيقاع أو الطبلة في يد المسحراتي فكانت في مصر، حيث كان المسحراتي يجوب شوارع القاهرة وأزقتها وهو يحمل طبلة صغيرة ويدق عليها بقطعة من الجلد أو الخشب، وفي العصر الفاطمي بدأت مهنة المسحراتي أيام الحاكم بأمر الله، الذي أصدر أمرًا بأن ينام الناس مبكرين بعد صلاة التراويح.
وكان جنود الحاكم يمرون على البيوت يدقون الأبواب ليوقظوا النائمين للسحور، أما في عصر المماليك فقد ظهر "ابن نقطة" شيخ طائفة المسحراتية والمسحراتي الخاص بالسلطان الناصر محمد، وهو مخترع فن "القوما"، وهى من أشكال التسابيح، ثم انتشرت بعد ذلك مهنة المسحراتي بالطبلة التي كان يُدق عليها دقات منتظمة بدلًا من استخدام العصا.
طبلة المسحراتي
كانت الطبلة هذه تسمى "بازة" وهي صغيرة الحجم، يدق عليها المسحراتي دقات منتظمة، يشدو عليها بأشعار شعبية وزجل خاص بشهر رمضان، وإنشاد المسحراتي كان يتميز في طريقة الأداء التي ارتبطت في الوقت نفسه بالتوقيع على طبل البازة بإيقاع متميز أيضًا يعرفه الناس ويستيقظون عليه.
سيد مكاوي
سيد مكاوي .. أشهر مسحراتية القاهرة
"قوموا تسحّروا واعبدوا رب الأنام .. ويلي يصوم رمضان يا هناه.. يا سي محمد يا رب يخليك لنا والسنة الجاية تكون على منى."
نداءات التسحير التي كان يطلقها الفنان الكبير الراحل سيد مكاوي، إحدى علامات التلحين والغناء في عالمنا العربي، والذي يعتبر أشهر "مسحراتي" في عصرنا الحديث، حيث كان بطبلته وصوته الشجن يجول في أرجاء القاهرة القديمة، بكلمات بسيطة وصوت عذب وألحان شجية يعرفها الصغير قبل الكبير.
كانت النداءات من كلمات شاعر العامية الأول فؤاد حداد رغم أنه كان مسيحي الجنسية، واعتنق الإسلام في عقده الثالث، وأبدع في أشعار المسحراتي، وارتبطت هذه الأشعار في أذهان المصريين بعدد من القيم الرمضانية الجميلة، وحملت حكماً ومواعظ وحكايات مصرية وعربية أصيلة.
ولد سيّد مكاوي عام 1928 في حي الناصرية ـ أحد أحياء حي السيّدة زينب العريق ـ في أسرة شعبية بسيطة وكان لكف بصره عامل أساسي في اتجاه أسرته إلي دفعه للطريق الديني بتحفيظه القرآن الكريم فكان يقرأ القرآن ويؤذن للصلاة في مسجد أبو طبل ومسجد الحنفي بحي الناصرية.
وما إن تماثل لسن الشباب حتي انطلق ينهل من تراث الإنشاد الديني من خلال متابعته لكبار المقرئين والمنشدين آنذاك كالشيخ إسماعيل سكر والشيخ مصطفي عبد الرحيم، وكان يتمتع بذاكرة موسيقية جبارة فما إن يستمع للدور أو الموشح لمرة واحدة فقط سرعان ما ينطبع في ذاكرته الحديدية، وكانت والدته تشتري له الأسطوانات القديمة من بائعي الروبابيكيا بالحي بثمن رخيص ليقوم بسماعها إرواء لتعطشه الدائم لسماع الموسيقي الشرقية.
بدأت قصة "المسحراتي" مع الشيخ سيّد الذي وُلد في الناصرية بالسيدة زينب، في مرحلة الطفولة، عندما كان "المسحراتي" يجوب حارتهم في شهر رمضان وينادي على أبناء الحارة كل واحد باسمه، وكان عندما ينادي لسيد مكاوي يقول: "اسعد الله الليالي عليك يا شيخ سيد،الصلاة والصوم وصالح الأعمال، واسع الليالي عليك، إصح يا شيخ سيد".
وتعود فكرة احتكار سيد مكاوي للمسحراتي إلى ستينيات القرن الماضي، حيث حرصت الإذاعة المصرية على تقديم «المسحراتي» بشكل سنوي، وفي عام 1968 عهدت إلى عدد من الملحنين بالمشاركة في تلحين الثلاثين حلقة، ومنهم أحمد صدقي، ومرسي الحريري، وعبد العظيم عبدالحق، وطلبت من الشيخ سيد المشاركة في تقديم ألحان جديدة للمسحراتي.
وأسندوا إليه ثلاث حلقات في هذا العام، وفي اليوم المحدد للتسجيل اتجه للإذاعة ليس بصحبته فرقة موسيقية، أو حتى العود الذي تعود أن يصحبه معه في كل مكان، وحمل في يده حقيبة صغيرة فقط، وما أن شاهده المسؤولون في الإذاعة ومهندسو الاستوديو، حتى ارتسمت على وجوههم الدهشة، وقفزت عشرات الأسئلة من أعينهم، لكن ما أن دخل الشيخ سيد الاستوديو ووقف أمام الميكرفون، حتى أخرج من حقيبته "طبلة" صغيرة، وبدأ يستخدمها بديل عن الفرقة الموسيقية، وكانت المفاجأة أن حلقاته نالت نجاح جماهيري كبير جدًا، فكلفوه في العام التالي بتلحين وغناء الحلقات كاملة، ومنذ ذلك التاريخ أصبح مكاوي "المسحراتي" الوحيد للإذاعة المصرية، وكان له الفضل الأول في وضع أساس لحني خاص للمسحراتي، وظل يقدمه بنفس الأسلوب حتى وفاته في 21 أبريل 1997.