يتزامن اليوم الذكرى الـ71 للنكبة الفلسطينية حيث تم تهجير أكثر من 800 ألف فلسطيني عام 1948، حيث خرجوا لا يحملون معهم سوى مفاتيح بيوتهم،في ذلك اليوم طرد الاحتلال الإسرائيلي سكان 530 مدينة وقرية فلسطينية بالاضافة الى سكان 662 ضيعة وقرية صغيرة ليكون الشعب الفسلطيني ضحية اكبر عملية تنظيف عرقي مخطط لها في التاريخ الحديث.
وفي تلك الذكرى يستحضرنا كلمات الشاعر الفلسطيني الراحل "محمود درويش" التي كتبها عقب النكبة بأيام كرسالة للشعب الفلسطيني حيث قال:
اليوم هو يوم الذكرى الكبرى، لا نلتفت إلى أمس لاستحضار وقائع جريمة وقعت، فما زال حاضر النكبة ممتداً ومفتوحاً على جهات الزمن، ولسنا في حاجة إلى ما يذكرنا بتراجيديتنا الإنسانية المستمرة منذ ثلاثة وخمسين عاماً، فما زلنا نعيشها هنا والآن، وما زلنا نقاوم تداعيات نتائجها، الآن وهنا، على أرض وطننا الذي لا وطن لنا سواه.
لن ننسى ما حدث لنا على هذه الأرض الثكلى وما يحدث، لا لأن الذاكرة الجمعية والفردية خصبة وقادرة على استعادة حكاياتنا الحزينة، بل لأن الحكاية-حكاية الأرض والشعب، حكاية المأساة والبطولة، ما زالت تروى بالدم، في الصراع المفتوح بين ما أريد لنا أن نكون، وبين ما نريد أن نكون.
وإذا كان صناع النكبة الإسرائيليون يعلنون في هذه الذكرى أن حرب العام 48 لم تنته بعد، فإنهم لا يفضحون سوى سراب سلامهم الذي لاح خلال العقد الماضي، ملوحاً بإمكانية التوصل إلى وضع نهاية للصراع تقوم على اقتسام الأرض، ولا يفضحون سوى صعوبة وضع المشروع الصهيوني والسلاح في سياق واحد، طالما أن هدفه في القضاء على العشب الفلسطيني ما زال مدرجاً على جدول الأعمال.
إن المعني الذي يفهمه الفلسطينيون لتلك الحرب يتمثل في تعرضهم لعملية اقتلاع كبرى، وفي تحويلهم إلى لاجئين في بلادهم وخارجها، وفي محاولة طردهم من الوجود والهواء والفضاء، بعد احتلال أرضهم وتاريخهم، ولتحويلهم من كينونة صريحة في الزمان والمكان إلى فائض من أشباح منفي خارج الزمان والمكان.
لكن صناع النكبة لم يتمكنوا من كسر إرادة الشعب الفلسطيني وطمس هويته الوطنية، لا بالتشريد ولا بالمجازر ولا بتحويل الوهم إلى واقع ولا بتزوير التاريخ. لم يتمكنوا طوال خمسة عقود من دفعنا إلى الغياب والنسيان، ومن إقصاء الحقيقة الفلسطينية عن الوعي العالمي، ولا بالخرافة ولا بصناعة حصانة أخلاقية تمنح ضحية الأمس الحق في إنتاج ضحيتها، فليس هنالك من جلاد مقدس.
واليوم، تأتي ذكرى النكبة في غمرة دفاع الفلسطينيين عن الإنساني في كينونتهم، عن حقهم الطبيعي في الحرية وتقرير المصير على جزء من أرض وطنهم التاريخي، بعدما قدموا أكثر مما تقتضيه الشرعية الدولية من استحقاقات لجعل السلام ممكنا. وعندما اقتربت لحظة الحقيقة أفصح مفهوم السلام الإسرائيلي عن جوهره الحقيقي: استمرار الاحتلال باسم آخر، بشروط أفضل، وتكلفة أقل.
اقرأ ايضاً..باحث إسرائيلي يكشف مفاجأة جديدة بشأن "صفقة القرن": عروش الملوك العرب في خطر
إن الانتفاضة، أمس واليوم وغدا، وهي التعبير الطبيعي المشروع عن مقاومة العبودية المتمثلة في احتلال يتسم بأبشع أشكال الفصل العنصري، ويسعى تحت قناع عملية السلام المراوغة إلى تجريد الفلسطينيين من الأرض ومصادر الحياة، وإلى عزلهم في تجمعات ديموغرافية معزولة ومحاصرة بالمستوطنات والطرق الالتفافية، على أن يؤذن لهم، بعد أن يوافقوا على (إنهاء المطالب والصراع) بإطلاق اسم الدولة على أقفاصهم الواسعة.
والانتفاضة، هي حركة احتجاج شعبية ومدنية من حيث الجوهر، لا تشكل قطيعة مع فكرة السلام، ولكنها تسعى لإنقاذها من ضلال العنصرية وأعادتها إلى أبوابها الشرعيين الوحيدين: العدل والحرية.
وذلك بمنع المشروع الكولونيالي الإسرائيلي في الضفة الغربية وقطاع غزة من الاستمرار تحت غطاء عملية السلام التي أفرغها القادة الإسرائيليون من أي معنى ومضمون.
إن أيدينا الجريحة ما زالت قادرة على حمل غصن الزيتون اليابس، من بين أنقاض الأشجار التي يغتالها الاحتلال، إذا بلغ الإسرائيليون سن الرشد واعترفوا بحقوقنا الوطنية المشروعة، كما عرفتها قرارات الشرعية الدولية، وفي مقدمتها: حق العودة، والانسحاب الكامل من الأراضي الفلسطينية المحتلة في العام 1967، وحق تقرير المصير في دولة مستقلة ذات سيادة وعاصمتها القدس، إذ، لا سلام مع الاحتلال، ولا سلام بين سادة وعبيد.
وليس في وسع المجتمع الدولي أن يواصل غض الطرف عما يحدث الآن على أرض فلسطين، كما فعل في عام النكبة، فالعدوان الإسرائيلي مستمر في تدمير المجتمع الفلسطيني ومحاصرته، وفي القتل والاغتيال، بكل ما يملك من فائض قوة تدميرية ضد شعب أعزل يدافع عما تبقى من وجوده المهدد، وعما تبقى من أشجاره المعرضة للمزيد من الاقتلاع.
إن الحرب المعلنة على الشعب الفلسطيني ليست معزولة عن مدى اهتمام العالم، فهي تعبر عن معركة بين قيم عالمية متناقضة: بين قوى تستهدف تمكين الصهيونية الكلاسيكية، ذات النزعة الكولونيالية، ونظام الفصل العنصري، من مواصلة الحياة بتعابير وشعارات جديدة، وبين قوى تصر على أولوية العدل والحق في هذا المكان من العالم.
لذلك، فإن انخراط دول العالم وشعوبه في المجابهة الدائرة في فلسطين اليوم، ووقوفها إلى جانب الشعب الفلسطيني، المحروم من شرط الحياة العادي والمألوف، لا يدل على التزامها بضرورة الاستقرار السياسي في الشرق الأوسط، حماية لمصالحها فحسب، بل هي امتحان أيضاً لموقف أخلاقي يختبر ما لقيم الحرية والعدالة والمساواة من مصداقية وأولوية في حياة تلك الشعوب وثقافتها.
إن تدخل المجتمع الدولي لحماية الفلسطينيين من وحشية العنف الإرهاب اللذين يمارسهما النظام الإسرائيلي، الذي نصب نفسه فوق القانون الدولي، أصبح ضرورة ملحة أكثر من أي وقت مضى، لا للتفكير عن خطيئة سابقة فقط، بل للحيلولة دون ارتكاب المزيد من الخطايا، والحيلولة دون أضافه فصل جديد إلى فصول النكبة، وبدلا من أن تعترف إسرائيل بمسؤوليتها عن النكبة وعن مأساة اللاجئين، كما تقتضي قواعد التسوية السياسية، فإنها تسعى إلى تطوير سفر النكبة، وإلى العودة بالصراع إلى ساحته الأولى، وتذكرنا بأن الحكاية لا تبدأ من النهاية.
لم ننس البداية، لا مفاتيح بيوتنا، ولا مصابيح الطريق التي أضاءها دمنا، لا الشهداء الذين أخصبوا وحدة الأرض والشعب والتاريخ، ولا الأحياء الذين ولدوا على قارعة الطريق، الذي لا يؤدي إلا إلى الوطن الروح، ما دامت روح الوطن حية فينا.
لن ننسى أمس، ولا الغد، والغد يبدأ الآن، من الإصرار على مواصلة السير على هذا الطريق.. طريق الحرية، طريق المقاومة حتى التقاء التوأمين الخالدين: الحرية والسلام.