لم يعد هناك أدنى شك فى أن ترامب يبيع الوهم للخليج. فى الغرف المغلقة يتوعد إيران أمامهم بالويل والثبور وعظائم الأمور. وأمام الكاميرات وفى جولاته الخارجية, يرتدى ثوب العقل والدبلوماسية. فى زيارته الأخيرة لليابان أكد أنه "لا رغبة لديه مطلقاً فى إيذاء إيران ولا نية مبيتة لتغيير النظام فى طهران"، وزاد وزير خارجيته مايك بومبيو من الشعر بيتا بقوله إن بلاده مستعدة لمفاوضة الملالي دون شروط.. ما الذى يسعى إليه سيد البيت الأبيض إذا؟ تبدو الإجابة بديهية: اصطناع جو مشحون بالعداء يتمكن خلاله من ابتزاز العرب فى كم غير معلوم من مليارات الدولارات, وإنهاك واستنزاف الطرفين وبيع أسلحة لا يجد لها مشترً.
ترامب ومن قبله أوباما, أيقنا أنه لا حل عسكرى مع برنامج إيران النووي. وإلى ذلك سبقهما جورج بوش الابن, ففى عام 2007, أسقط الرجل الحرب من حساباته, بعدما أخبره البنتاجون أن خيار القصف الجوى يتطلب إصابة 2000 هدف فى 36 ساعة, وأن ذلك هو المستحيل بعينه, وحتى لو تحقق فإن رد إيران سيكون مؤلماً قاسياً, أبسطه أن حاملة طائرات أمريكية ستغرق بأكملها فى قاع الخليج.. رد لن تتحمله واشنطن وحلفاؤها فى منطقة يحاصرها الدم والنار. والأهم هو أن إيران ترد الضربة بمثلها, وليس أدل على ذلك ما فعلته المدفعية الأمريكية بالخليج عام 1988, حينما أسقطت طائرة مدنية إيرانية على متنها 293 راكبا, فكان رد طهران تخطيط وتنفيذ تفجير طائرة "بان أمريكا" بتمويل من الزعيم الليبى الراحل معمر القذافى, بينما كانت محلقة فوق بلدة لوكيربى الاسكتلندية, وعلى متنها 243 راكبا.
فى أبريل 2015, حينما اختار أوباما تسوية سلمية لملف إيران النووي, كان يدرك تماما أن 12عاماً من العقوبات لم تعطل برنامجها بل زادتها إصراراً عليه, وإن لم يكن نظام الملالى صنع القنبلة فإنه على الأقل بات يمتلك المعرفة اللازمة, والأهم أن طهران استوعبت الدرس مما حدث مع عراق صدام حسين, ولم تنجر إلى أى حماقات.. ذات يوم وجه أوباما سؤالا لمايكل هايدن,مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية, عما إذا كان مفاعل نطنز هو أخطر ما يملكه الإيرانيون من مفاعلات, فأجاب هايدن:" إن كمية ما لدى إيران من مواد فى المفاعل لا يشكل خطرا فى حد ذاته, فما يبنونه هناك هو المعرفة, ما يبنونه هناك هو الثقة, لاحقا سيأخذون المعرفة والثقة إلى مكان آخر ويبدأون بتخصيب اليورانيوم. تلك المعرفة سيدى الرئيس مخزنة فى عقول العلماء, وهذا أمر لا نستطيع فعل حياله شيء".
قرر أوباما الاتجاه لتسوية السلمية مع إيران وشاركه الأوربيون.. اختار الغرب أخيراً التحلى بالموضوعية.. هذا ما طالبهم به جاك شيراك قبل أن يرحل عن الأليزيه بأيام.. كان ذلك فى أبريل 2007, حينما قال الرجل إنه لا مفر من التعايش مع إيران نووية, وحتى لو امتلكت القنبلة فلن تستخدمها, إنه سلاح ردع لا ضرب.. وقتها تعالت صيحات الغضب فى واشنطن وتل أبيب, وطالبوه بالاعتذار والتراجع عما قال. تراجع شيراك على مضض وكأن لسان حاله: وستذكرون ما أقول لكم!