في حي "الشيخة شفا" الشعبي بجنوب مدينة الفيوم، وتحديدًا بمنطقة الحواتم، تلك المنطقة الشهيرة بسبب أسواقها الشعبية، يوجد شارع عبد الرحمن بك، ذلك الشارع القديم الذي تملؤه المنازل العتيقة التي مر على بنائها عشرات السنوات، تجلس الحاجة "أم هاني" في مدخل منزلها القديم الذي يتكون من طابقين أمام فرن حديدي كبير، وبجوارها عدد كبير من أسطوانات الغاز، وعلى يمينها مئات الكيلوات من "الرقاق" وأمامها طبلية تفرد عليها عجينة الرقاق، ثم تطهوها بداخل الفرن، فيما يجلس بجوارها جيرانها "أصحاب الرقاق" يتسامرون ويمزحون، وتعلو الابتسامات وجوههم رغم ضيق الحال.
فور رؤيتها لكاميرا "أهل مصر"، ابتسمت الحاجة "أم هاني" للكاميرا، قائلةً بروح من الدعابة: "هتصورني.. ماشي بس طلعوني حلوة، ومتقولوش اسمي إيه قولوا بس أم هاني"، واستمرت أم هاني في عملها مؤكدة أنّ الرقاق أكلة جميلة، وخفيفة تصلح للإفطار عن طريق عمله "فتة باللبن والسمن البلدي والمكسرات"، أو غداء عن طريق حشوه باللحم المفروم أو الجبن أو الكبدة أو فتة بالصلصة مع اللحم، وفي العشاء كفطائر جبن وزعتر خفيفة، والأفضل من ذلك أنّ سعره رخيص جدًا فالكيلو الواحد بـ 20 جنيهًا فقط.
وكشفت أنها اضطرت إلى العمل في صناعة الرقاق منذ 27 عامًا حينما مرض زوجها وأصيب بفيروس سي، ولم يعد قادرًا على العمل، وأدويته كانت غالية الثمن، فتعلمت صناعته من أجل توفير فرصة عمل لنفسها بمنزلها بجوار زوجها وأبنائها، وفي الوقت ذاته تتمكن من تحسين مستوى الدخل والإنفاق على أسرتها وأن تكون عونًا وسندًا لزوجها، ولكن توفي زوجها وهو الأمر الذي زاد الطين بلة، فوجدت نفسها أمًا وأبًا لـ5 أبناء وكانت مصممة على إكمال تعليمهم، فبدأت تعمل في صناعة الفطير المشلتت حتى تعرّفت على بعض العاملين في فنادق كبرى بالقاهرة والغردقة وأصبحوا يطلبون منها طلبيات كبيرة من الفطير المشلتت على مدار العام، وتزداد الطلبيات بكثرة خلال فترة الصيف.
وتابعت أنها من خلال "الرقاق والفطير" تمكنت من إكمال تعليم أبنائها الخمسة حتى تخرجوا جميعا من كليات وأصبحوا "تعليم عالي"، واستكملت مشوار كفاحها بتزويجهم حتى تزوجوا كلهم، ولم تكتف بدورها ذلك، بل إنها تساعدهم ببعض الأموال كل شهر ليتمكنوا من مواجهة أعباء الحياة، وبدأت تعمل هذه الفترة أملًا في توفير مبلغ من المال لتحقق حلمها بحج بيت الله الحرام.
وتابعت قائلة: "الزمن بيتغير زمان كنت بعمل كيلو الرقاق بـ 2 جنيه دلوقتي أنبوبة الغاز بقت بـ 70 وكيلو الدقيق بقى بـ 8 فبعمل الكيلو بعشرين البركة بتاعت زمان راحت"، موضحةً أنّ الرقاق يتم تصنيعه من الماء والدقيق والملح عبر عجنها معًا جيدًا ثم يتم تقطيع العجين على شكل كرة صغيرة وتتركها في طبق بلاستيكي كبير مغطى بقماشة بيضاء نظيفة حتى ترتاح العجينة، بعد ذلك تبدأ في فرد كل كرة بعصا أسطوانية حتى تصبح دائرية خفيفة جدًا ثم تدخلها الفرن حتى تستوي، وعقب إخراجها من الفرن تقوم بوضعها على قطعة قماش نظيفة في الهواء حتى تبرد وتجف ثم تبدأ برصها فوق بعضها البعض وتغليفها وتسليمها للزبون، كاشفةً أنّه الآن أصبحت الكثير من السيدات تطلب منها أن ترسل لهم رقاقا طريا وهو يشبه العيش السوري من أجل حشوه باللحوم والدجاج بأنواعه المختلفة ولكن الأساس هو الرقاق الناشف.
وفي ختام حديثها، طالبت أم هاني اللواء عصام سعد إسماعيل محافظ الفيوم، بمساعدتها في إجراء عملية زرع قوقعة لحفيدها، حيث يحتاج إليها بشكل عاجل، ولكنهم فشلوا في الحصول على موافقة لإجرائها على نفقة الدولة، ولا يملكون أموالًا تمكنهم من إجرائها على حسابهم الشخصي، مشيرة إلى أنّ زوجها كان قد أجرى نفس العملية منذ فترة على نفقة الدولة، وكل أملها الآن في أن يتم تسهيل إجراءاتها وتتمكن من إجرائها لحفيدها الصغير لكي يعيش حياته بشكل طبيعي مثل باقي الأطفال في عمره.
اقرأ أيضا.. "أشكال وألوان".. محلات الجزارة في الفيوم جاهزة لاستقبال العيد
يذكر أنّ "الرقاق" هو أكلة تركية الأصل، وكان يعتبر نوعًا من أنواع الخبز تم اختراعه في عهد الدولة العثمانية، وكان يتم تصنيعه من مزيج الماء والدقيق والملح على شكل دوائر رقيقة، وانتقل إلى مصر في عهد الخلافة العثمانية ولكن المصريين لم يحبوا تناوله كخبز وقاموا بالتفنن في إدخاله بأطعمة مثل الفتة باللبن، والفتة بالمرق والصلصة واللحم، والفطير المحشو باللحم المفروم أو الفراخ أو الكبدة، وحشوه بأنواع مختلفة من الجبن والزعتر، ولكنه لا يزال مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بعيد الأضحى المبارك، ويكون طبقا أساسيا على مائدة كل أسرة مصرية.