حكمت محكمة سودانية على الرئيس السابق، عمر البشير، بالسجن مدة عامين ومصادرة جميع الأموال المضبوطة في منزله، الأجنبية والسودانية، إلى السلطة المدنية، لإدانته بتهم فساد وتلقي رشاوي وحيازة عملة أجنبية، في وقت يخشى مراقبون وأهالي الضحايا، سواء خلال مجازر إقليم دارفور أو أثناء تظاهرات 19 ديسمبر، من أن هذه المحاكمة المتعلقة بتهم فساد مالي قد تتسبب في غض الطرف عن محاكمته بتهم أخرى أكثر أهمية والمتعلقة بحقوق الإنسان وضحايا النزاعات والثورة.
ويُحتجز "البشير" في سجن بالخرطوم منذ إجباره على التنحي عن السلطة في أبريل الماضي بعد سحب الجيش دعمه لنظامه القمعي بعد أشهر من الاحتجاجات.
وأمر قاض في العاصمة بمصادرة ملايين اليوروهات والجنيهات السودانية الموجودة في مقر إقامة البشير عندما تمت إقالته، لكنه قال إن الرجل البالغ من العمر 75 عامًا سيتم إرساله إلى مؤسسة إصلاحية، بدلاً من السجن، بسبب عمره. ولقى الحكم انتقادا على الفور من قبل المناصرين للديمقراطية بدعوى أنه متساهل للغاية، وقالوا إنهم سينظمون احتجاجات غدا الأحد.
وشوهد "البشير" وهو يرتدي الجلباب الأبيض التقليدي والعمامة من داخل قفصه أثناء قراءة القاضي الحكم عليه، اليوم السبت.
وفُتحت عدة مسائل قضائية أخرى ضد الرئيس السابق؛ ففي مايو الماضي، تم اتهام المعزول بالتحريض والمشاركة في قتل المتظاهرين. وفي الأسبوع الماضي تم استدعاؤه من أجل استجوابه حول دوره في الانقلاب العسكري عام 1989 الذي أوصله إلى السلطة.
وعبّر سلاف بلول، الذي أعدم البشير والده عام 1991، عن سعادته بالحكم، وقال: "من الجيد أن يشعر البشير بالإهانة وعليه أن يسدد الأموال التي سرقها من الشعب السوداني. لكن نحن، عائلات الشهداء، لن نشعر بالارتياح إلا عندما يُحكم عليه بالإعدام".
وفي نفس الوقت، استقطبت مظاهرة أمام المحكمة في العاصمة الخرطوم عدة مئات من مؤيدي "البشير" والعديد من أعضاء حزبه السابق، المؤتمر الوطني.
البشير في المحكمة اليوم
محمد الفاتح، مواطن سوداني، 27 عاماً، قال لصحيفة "الجارديان" البريطانية، إنه يحترم النظام القضائي السوداني لكنه يشعر أن الحكم كان خاطئاً؛ فقد تجاهل القاضي جميع الأدلة التي قدمها فريق الدفاع، مضيفا أنه يعتقد بأنه سيكون حراً عندما يستأنفون القرار".
وبحسب "الجارديان"، فقد كان عدد قليل من السودانيين يتوقعون رؤية "البشير" ماثلا أمام القضاة، وكان أعضاء فريقه القانوني، بمن فيهم حوالي 100 محام، متفائلين من أن المحكمة سترفض الاتهامات. وذلك في وقت كانت الأولويات الرئيسية للناشطين الديمقراطيبن في السودان هي تقديم رموز نظام "البشير" السابقين إلى العدالة.
كانت السلطات السودانية رفضت تسليم "البشير" إلى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، التي اتهمته بالمسؤولية الجنائية عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية بعد قتل وتشويه وتعذيب مئات الآلاف من الأشخاص في إقليم دارفور.
وتقدر الأمم المتحدة أن ما بين 200 إلى 400 ألف شخص لقوا حتفهم في هذا الصراع الذي تسبب أيضا في نزوح 2.7 مليون آخرين. وأن الميليشيات التي شكلها البشير هي المسؤولة عن هذه الأعمال الوحشية.
ويحكم السودان حكومة انتقالية ومجلس سيادي مكون من 11 عضوًا، يضم مدنيين وكبار العسكريين. ومن المقرر أن تستمر الفترة الانتقالية هذه لثلاث سنوات فقط قبل إجراء انتخابات.
وفي الشهر الماضي، تحركت الحكومة لحل الحزب الحاكم السابق وإلغاء القوانين التي كانت تنظم سلوك المرأة في عهد البشير. وقال محللون إن تنفيذ هذه الإجراءات ستكون اختبارًا حاسمًا لمدى استعداد السلطة الانتقالية أو قدرتها على الإطاحة بإرث حكم البشير. ووصف المسؤولون قانون حل حزب المؤتمر الوطني الذي يتزعمه البشير بأنه وسيلة لتفكيك النظام السابق.
وتأسس حزب المؤتمر الوطني عام 1992 والذي حكم البلاد حتى غادر "البشير" السلطة. وتأثر الحزب بشدة بفكر حركة الإخوان، فقد شجع على فرض تفسير صارم للشريعة الإسلامية في السودان. حسبما ذكرت "الجارديان".
وخلال محاكمة الفساد، تبين أن البشير أبلغ المحققين أنه تلقى 90 مليون دولار نقداً من السعودية للاستخدام الشخصي، في وقت عزز الكشف عن هذا الدعم السعودي المخاوف من أن دول الخليج تسعى إلى تعزيز مصالحها من خلال صفقات سرية مع الحكام ووسطاء السلطة الرئيسيين في السودان. ولا يخفى أن الجيش السوداني لديه علاقات قوية مع ممالك الخليج، بعد أن ساعد في الحرب السعودية الإماراتية في اليمن. وفقا للصحيفة البريطانية.
من جانبه، قال جلال يوسف، وهو فنان سوداني لعب دورًا بارزًا في الاحتجاجات التي أطاحت بالبشير، لصحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية، إن القضية الحالية المرفوعة ضد البشير تعكس إرادة الكثير من الناس، مضيفا أن "البشير ارتكب الكثير من الجرائم في السودان"، وأعرف أنه مذنب والجميع يعرف ذلك".
وتابع يوسف: "ومع ذلك، فإن محاكمة البشير فقط بتهم الفساد، وليس بسبب انتهاكات حقوق الإنسان، لا معنى لها، ولا ترقى إلى "العدالة الحقيقية" لأولئك الذين وقعوا ضحية له"، مؤكدا أنه "لا أحد راض عن ذلك، والشوارع مستيقظة وما زلنا في ثورة".
من جهته، قال "جوناس هورنر"، الخبير في الشأن السوداني في مؤسسة "مجموعة الأزمات الدولية"- منظمة أبحاث- لـ"نيويورك تايمز": "لسنوات عديدة، بدا التحقيق مع البشير أمرا مستحيل المنال، مضيفا أن الحكم عليه في قضية الفساد هذه يساعد على "كسر هذه الحصانة التي كانت سائدة" في عهده وحكم حزبه.
اقرأ أيضاً: أول تعليق من البشير بعد الحكم عليه بالسجن 10 سنوات
واعتبر "هورنر" إنه على الرغم من أن محاكمة البشير في قضايا الفساد أمر حاسم، إلا أن العديد من السودانيين يخشون من أنه من خلال محاكمته أولاً بتهم الفساد، لن يتم تحقيق عدالة ذات مغزى أكبر؛ فلم يتضح على الفور ما إذا كان البشير سيُحاكم بتهم تتعلق بحقوق الإنسان في السودان أم لا.
اقرأ أيضاً: تعليق تجمع المهنيين السودانيين بعد إيداع البشير "الإصلاحية" لمدة عامين
وتابع الخبير في الشأن السوداني: "إن محاكمته بسبب الجرائم المالية أمر ثانوي بالنسبة للعديد من السودانيين"، خاصة بالنسبة لأولئك الذين عانوا خلال الحملة العسكرية الوحشية في المنطقة الغربية من إقليم دارفور، حيث قتل ما يصل إلى 300 ألف شخص منذ عام 2003، وفقًا لتقديرات الأمم المتحدة.
اقرأ أيضاً: النيابة السودانية: البشير يواجه تهمًا تصل عقوبتها إلى الإعدام
واختتم: "إن الشاغل الرئيسي لدارفور وتلك الأقاليم الموجودة في الأطراف في الجنوب والغرب، هو أن يُحاسب على مسؤوليته على الجرائم الأكثر عنفًا التي ارتكبت هناك".