في خطوة غير مسبوقة، اتخذت دولة أوروبية قرارًا بتسليح أوكرانيا بطريقة جديدة، حيث أصبحت أول عضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو) يشتري أنظمة دفاع جوي أمريكية خصيصًا لتسليمها إلى كييف. هذا التحرك يمثل تحولًا كبيرًا في استراتيجية الدعم الأوروبي، من الدعم السياسي والعسكري التقليدي إلى دعم نوعي واستباقي يعكس قلقًا متزايدًا من توسع نطاق الصراع وزيادة الهجمات الجوية من قبل إحدى القوى الكبرى. هذا القرار يُنظر إليه على أنه شكل من أشكال "الردع غير المباشر" يهدف لحماية الأراضي الأوكرانية وردع الخصم دون الدخول في مواجهة مباشرة.
قرار يتجاوز الرمزية
يُعتبر هذا القرار أكثر من مجرد بادرة رمزية، فهو يحمل أبعادًا عملية واستراتيجية واضحة. على الصعيد العسكري، ستوفر أنظمة الدفاع الجوي المتقدمة حماية حيوية للمدن والبنية التحتية الأوكرانية من الصواريخ والطائرات المسيرة. أما على الصعيد السياسي، فهو يمثل رسالة واضحة لبقية الدول الأوروبية بأن الاكتفاء بالإدانات لم يعد كافيًا، وأن التحرك العسكري بات ضرورة ملحة. قد يشجع هذا المسار دولًا أخرى على اتخاذ قرارات مماثلة، ما من شأنه توسيع نطاق الدعم العسكري لأوكرانيا.
ردود فعل محتملة وتدويل للصراع
من المتوقع أن يثير هذا القرار ردود فعل قوية من قبل القوة الكبرى المعنية، التي لطالما اعتبرت تسليح أوكرانيا المتقدم خطًا أحمر. قد يلجأ الخصم إلى تصعيد الموقف من خلال تكثيف الضربات الجوية أو استهداف طرق إمداد الأسلحة. بهذا الشكل، تتآكل الحدود الفاصلة بين الدعم غير المباشر والمواجهة، ويتعمق تدويل الصراع أكثر فأكثر.
من الاجتماعات إلى ساحة المعركة
لا يمكن فصل هذا القرار عن الأجواء التي سادت خلال اجتماع للناتو في لاهاي قبل أسابيع، حيث كان التركيز واضحًا على تعزيز الدفاعات الجوية في أوكرانيا في ظل مخاوف من امتداد الهجمات إلى عمق القارة الأوروبية. في ذلك الاجتماع، كانت الدولة التي اتخذت القرار من أبرز الداعمين لتسريع وتيرة الردع الجوي، وما نشهده اليوم هو التطبيق العملي الأول لمقررات ذلك الاجتماع.
تقاطع المصالح الاستراتيجية
لفهم السياق الكامل للقرار، يجب النظر إليه ضمن محددات السياسة الأوروبية الأربعة: الأمن، والطاقة، والهجرة، والمناخ. فالدعم العسكري لأوكرانيا يُعد تحركًا أمنيًا بامتياز، لكنه يرتبط بشكل وثيق ببقية الملفات. أي تصعيد عسكري قد يهدد إمدادات الطاقة، ويؤدي إلى موجات هجرة جديدة، كما أن الصراع يخلف آثارًا بيئية تعيق مسار التحول الأخضر. من هنا، فإن القرار يتجاوز كونه استجابة أمنية ليصبح تموضعًا استراتيجيًا متعدد الأبعاد.
دور قيادي أم تابع؟
رغم الخطاب الأوروبي المتكرر حول "الاستقلال الاستراتيجي"، إلا أن معظم التحركات العسكرية تظل منسجمة مع الرؤية الأمريكية. قرار الدولة الأوروبية لا يمكن قراءته خارج هذا الإطار، حيث توجد دينامية قيادية أمريكية داخل الناتو. ومع ذلك، فإن هذه الدولة تقدم نفسها كدولة مبادرة لا مجرد تابع، مما يرسل رسالة مفادها أنه حتى لو لم تكن أوروبا قادرة على القيادة بشكل مستقل، فلا يجب أن تتخلف عن مسار واشنطن.
عجز دبلوماسي أم قوة عسكرية؟
يعكس ما يحدث في أوروبا مفارقة عميقة، حيث يُقابل العجز الدبلوماسي بتحرك عسكري. فبعد مرور عامين على الصراع، لم تتمكن أوروبا من إيجاد حل دبلوماسي فعال، مما دفعها للتوجه نحو الأدوات العسكرية لتعويض هذا الغياب. هذا التحرك لا يُعد علامة على القوة بقدر ما هو اعتراف ضمني بالضعف السياسي. من اللافت أن دولة صغيرة نسبيًا هي من تبادر، بينما تبدو قوى أوروبية أخرى أكثر تحفظًا، ما قد يُقرأ على أنه نوع من "التفويض الوظيفي" من واشنطن لبعض الحلفاء للقيام بأدوار أمنية محددة.
التاريخ المؤلم للعلاقة مع الخصم
تُعد العلاقة بين هذه الدولة الأوروبية والخصم محملة بتاريخ من التوترات المزمنة، أبرزها يعود إلى عام 2014، عندما أدى إسقاط طائرة ركاب إلى مقتل 193 من مواطنيها. التحقيقات التي أجرتها الدولة حمّلت الانفصاليين الموالين للخصم المسؤولية، وتدهورت العلاقات منذ ذلك الحين، مع وقوع قضايا تجسس متكررة وطرد دبلوماسيين. وبالتالي، فإن القرار الأخير ليس نابعًا فقط من التزامات الحلف، بل أيضًا من ذاكرة وطنية مؤلمة تدفع باتجاه موقف أكثر تشددا.
قرار استراتيجي في لحظة سياسية هشة
القرار صدر عن حكومة انتقالية، في ظل مشهد سياسي داخلي مضطرب وتصاعد لليمين المتطرف. أن تتخذ حكومة مؤقتة قرارًا استراتيجيًا بهذا الحجم يطرح تساؤلات حول وجود إجماع نخبوي، أو ربما يعكس محاولة لصياغة دور أمني خارجي يغطي على هشاشة الوضع الداخلي.
رمزية سياسية
لا يمكن إغفال التوقيت الرمزي للقرار، الذي يتزامن مع تولي رئيس الوزراء السابق لهذه الدولة أمانة حلف الناتو. هذا التزامن يعكس رغبة في ترسيخ موقعها داخل الحلف، وقد يُنظر إليه على أنه بمثابة "تحية سياسية" مبكرة للمسؤول الجديد، مما يشير إلى بداية مرحلة جديدة من التموضع داخل الناتو.