يمثّل التغلغل الاستراتيجي لجماعة "الإخوان" في الولايات المتحدة تهديداً أيديولوجياً معقّداً ومستداماً، يختلف جوهرياً عن الأشكال التقليدية للإرهاب. ويؤكد تقرير صادر عن معهد دراسة معاداة السامية والسياسات العالمية (ISGAP) أن نشاط الجماعة لا ينبغي فهمه باعتباره نشاطاً دينياً أو مدنياً بسيطاً، بل مشروعاً أيديولوجياً منظّماً يستهدف ركائز الحضارة الغربية، ويتطلب مواجهة شاملة متعددة الأدوات.
يشدد التقرير على ضرورة التمييز بين الدين كمنظومة إيمانية وبين الأيديولوجيا الحركية التي تروّج لها الجماعة، وعلى التنبيه إلى "خطة الـ100 عام" التي تتبناها، بهدف تحقيق ما يسمى "الجهاد الحضاري" (Civilization-Jihadist Process)، والذي يُعرَّف بأنه صراع طويل الأمد داخل المؤسسات والمجتمعات، يستغل منظومات الحريات والتعددية لإحداث تغيير جذري في البنية الاجتماعية والسياسية. وتصف الوثائق الداخلية هذا المشروع بأنه عمل لإعادة تشكيل المجتمع الأميركي من الداخل من خلال وسائل غير عنيفة تستفيد من انفتاح الأنظمة الديمقراطية.
"التطرف المستتر" والحرب المؤسسية
يصنف التقرير تغلغل الجماعة ضمن ما يسميه "التطرف غير العنيف"، وهو شكل من التهديد يستفيد من الحريات والقوانين والمؤسسات الديمقراطية لتحقيق أهداف أيديولوجية متطرفة دون اللجوء إلى العنف المباشر. وتقوم هذه المقاربة على استخدام الأدوات القانونية والثقافية المتاحة في المجتمعات الغربية، مع الحفاظ على خطاب علني "توافقي" يخفي الأهداف الحركية الحقيقية.
وتعتمد الجماعة على ما يسميه التقرير "المرونة الاستراتيجية مع ثبات المعتقد"، إذ تُظهر خطاباً عاماً يركّز على قضايا الحقوق والحريات، بينما تستبقي رؤية أيديولوجية صلبة تسعى إلى النفوذ والتمكين. ويجعل هذا الأسلوب من الجماعة نموذجاً لـ"الحرب المؤسسية"، القائمة على التسلل التدريجي إلى المؤسسات الاجتماعية والسياسية والقانونية، بما يُضعف الأنظمة الديمقراطية من الداخل.
ويشير التقرير إلى أن مواجهة هذا النوع من التغلغل تتطلب أدوات جديدة تتجاوز إجراءات مكافحة الإرهاب التقليدية، عبر تطوير أطر للتعامل مع التطرف المستتر، وتعزيز الشفافية المالية والأكاديمية، خصوصاً فيما يتعلق بالتمويل الأجنبي.
التمكين والمرحلية
يعدّ مفهوم التمكين محورياً في استراتيجية الجماعة، ويمثل فكرة "الترسيخ المؤسسي" على مختلف المستويات، من بناء الوعي وصولاً إلى النفوذ داخل المؤسسات. ويرصد التقرير تطوّر مفهوم التمكين عبر أربع مراحل تاريخية:
التمكين التأسيسي: قائم على التدرّج وبناء الكوادر.
التمكين الثوري: قائم على رؤية قطب للتحوّل الأيديولوجي الجذري.
التمكين المؤسسي: المشاركة التكتيكية في الأنظمة الديمقراطية.
التمكين العسكري/السياسي: التوسع في مفهوم "الجهاد الشامل".
ويعدّ مبدأ المرحلية جزءاً أساسياً من هذه الاستراتيجية، ويقوم على التكيف المؤقت مع الظروف لحماية المشروع الأيديولوجي حتى الوصول إلى التمكين الكامل. وقد شكّل ما يُعرف بـ"فقه الأقليات" غطاءً لاستراتيجية المشاركة المؤقتة في الغرب ضمن مسار طويل الأمد.
وتبرز وثيقة "مشروع الإخوان المسلمين: نحو استراتيجية عالمية للسياسة الإسلامية" (1982) بوصفها إطاراً عالمياً سرياً يُشار إليه بخطة "100 عام"، فيما تُعد "المذكرة التفسيرية" (1991) وثيقة التنفيذ التفصيلية في أميركا الشمالية، وتحدد صراحة هدف النفوذ المؤسسي وتذكر 29 منظمة تعمل ضمن الشبكة الحركية.
المجالات الأربعة للتغلغل
يرصد التقرير أربعة مسارات تشغيلية رئيسية يتكامل كل منها لتعزيز النفوذ داخل المجتمع الأميركي:
التأثير في السياسات العامة: عبر علاقات استشارية مع مؤسسات حكومية، ما يُتيح التأثير في خطاب وسياسات مكافحة الإرهاب.
الحرب القانونية (Lawfare): استخدام النظام القانوني نفسه لحماية الأجندة الحركية، بما في ذلك توسيع مفهوم "الإسلاموفوبيا" ليشمل النقد الأيديولوجي.
التغلغل المؤسسي: عبر مراكز ومنظمات تُستخدم كواجهات لتعزيز النفوذ، بما في ذلك مؤسسات تسيطر على أصول ومساحات دينية واجتماعية.
التحكم بالسردية والإعلام: خصوصاً بعد أحداث 7 أكتوبر 2023، إذ تصاعدت حملات التعبئة المنسقة داخل الجامعات ووسائل التواصل.
التطبيع مع التطرف
يشير التقرير إلى أن الجامعات الأميركية باتت بيئة خصبة للنشاط المنظم، عبر اعتصامات ومجموعات ضغط تستخدم مواد موحدة ورسائل مركزية، ما أدى إلى تطبيع خطاب متطرف لدى بعض المجموعات الطلابية واليسارية تحت شعارات "مناهضة الاستعمار" أو "العدالة الاجتماعية"، الأمر الذي ساهم في تحييد آليات الحماية الأكاديمية والمؤسسية.
استنتاجات التقرير
يخلص التقرير إلى أن الجماعة نجحت في تثبيت "اعتماد مساري" داخل المؤسسات الأميركية، إذ تصبح بعض المفاهيم والممارسات جزءاً من السياسات المعتمدة، بما يصعّب لاحقاً التراجع عنها. ويرى التقرير أن مواجهة هذا التغلغل لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال:
تطوير أطر تحليل أيديولوجي واضحة،
تعزيز الشفافية في التمويل،
تقوية المرونة المؤسسية،
الحفاظ على الخط الفاصل بين حماية الأفراد من التمييز وبين تحصين الأيديولوجيات من النقد.