على بعد أمتار من محيط العقار المحترق بحي الهرم، جلس المتضررون ضاربي الكفوف، بملابس رثة على رصيف الدائري في حالة انهيار تصطحبها دهشة لا تفارق أنظارهم، يتطلعون شاردين وفى جعبتهم ألف سؤال وسؤال: 'ماذا حدث.. من أشعل ذلك الجحيم؟'.
كان المكان أشبه بقرص نار لا ينطفئ ولا يهدأ، والمارون من حوله فى حالة خوف مريبة، ليومين استمرت النيران، الشرارة الأولى استمدت قوتها من مواد قابلة للاشتعال تواجدت فى ثلاث طوابق من العقار تخصصت فى مخازن لصنع الأحذية، هذا ما عرفناه من أحد ساكني العقار.
حريق مخزن الكاوتش بالهرم
على الرغم من مرور يومين، ما زال المتضررون جالسين حول محيط العقار، فلا مأوى ولا ملجأ لهم، يطمح بعضهم لاستعادة جزء مما فقدوه، فيما يقف البعض الآخر على آثار الخراب، مُحاولين إيقاف كل الوسائل التي تُمكن النار من العودة ثانية.
السادسة والنصف مساء من يوم السبت الماضي، استيقظ 'أحمد نور' على صوت الصارخ: 'فى نار.. قوم هنموت'، لم يكن قد مر على خلوده للنوم سوى ساعتين، قفز أحمد من مضجعه إلى السلالم يمسك بأحكام زوجته وطفله، إلا أن النيران كانت تنتظرهم، ليملأ دخانها الوسط كله وكأنه محاصر فى حلقات من النار والدخان 'ريحة الموت كانت فى كل مكان، لثواني حسيت اني هموت مخنوق وعمري ما هشوف الشمس'.
حريق مخزن الكاوتش بالهرم
بمدخل أحد العقارات المواجهة لمكان الحريق، جلست مسنة، دموع تغرق خديها، تضع حفيدها ذا الأربع سنوات على أرجلها، فكانت تجالسهم البيت برفقة زوجة ابنها، قبل اندلاع الحريق ببضع ساعات كانت تستعد لتأخذ قيلولة بعد عناء مع الأطفال، فكانت والدتهما قد خرجت لتحضر بعض المستلزمات المنزلية، سرعان ما طرق الباب بشدة لتعلم السيدة أن هناك كارثة فالأصوات الخارجية كانت أشبه بأصوات الموت.
'الذهب والفلوس كل حاجه ضاعت'.. على بعد أمتار من الأسرة جلست ثلاث سيدات، على وجوههن تبدو آثار الحسرة، تقول إحداهن إن شقتها التهمتها النيران، تصمت السيدة الثانية فما بق بها من قوة، بينما الثالثة تشرح 'اشتعلت النار فى العقار بشكل أشبه بالجحيم'، موضحه أن العقار يتكون من 18 طابقا يحتوي على 108 شقق يسكنها 15 أسرة، وأنها علمت فيما بعد أن صاحب العقار خصص الثلاث طوابق الأولي لمصنع الأحذية ومخزن للخامات.
حين حاصرت النيران شقة أحمد والسيدة العجوز والبقية، انقسمت العائلات في محاولة للهروب على السلم: 'أول حاجه طلعنا نجري عليها سلم البيت، أول ما بدأنا ننزل لقينا فى جهنم تحت وفى ناس عرفت تنزل وناس انهارت تماما'، لتقول إحداهن فى نبرة حزن: 'ملحقناش نجيب أي حاجة وكنا فاكرين اننا هنرجع تاني لأن الحريق موصلش الشقق فوق'، ليتسطرد رجل خمسيني بصوت مكسور أنه طلب أن يُسمح له بدخول شقته لإحضار أشيائه لكن رفض رجال الإطفاء خوفا على حياته.
ولأن الحدث كبير وله أكثر من زاوية، كان لدى أحد سكان العقار ما يزعجه ربما أكثر من اشتعال الحريق: 'سيارات الإطفاء لا تعمل على أكمل وجه، أليس لهذه المواد مضادات قادرة على إطفاء النيران بها؟'، استعان الرجل فى حديثه بمعادلة في الفيزياء تتعلق باحتباس الأكسجين داخل العقار، مختتم حديثه بالقول 'يومين وسط حالة عجز، بيرشوا بمياه وخراطيم ضعيفة.. العوض على الله'.