أكدت الدكتورة شيماء القصاص الخبيرة الاقتصادية أنه مع اقتراب افتتاح المتحف المصري الكبير رسميًا يوم السبت القادم، تتجه أنظار العالم إلى هضبة الجيزة حيث يقف أحد أضخم المشاريع الثقافية في التاريخ الحديث، مشروع لا يجسّد فقط عبقرية المصري القديم، بل يعبّر أيضًا عن رؤية الدولة الحديثة في تحويل الإرث الحضاري إلى قوة اقتصادية ناعمة.
يقع المتحف على مساحة تتجاوز نصف مليون متر مربع عند بوابة الأهرامات مباشرة، في موقع يربط بين الماضي المجيد والمستقبل الواعد، ويضم أكثر من مائة ألف قطعة أثرية تمثل مختلف مراحل التاريخ المصري، من أبرزها المجموعة الكاملة لكنوز الملك توت عنخ آمون التي تُعرض لأول مرة مجتمعة منذ اكتشافها قبل قرن، في تجربة عرض متكاملة تعتمد على أحدث تقنيات الإضاءة والتفاعل الرقمي.
وأشارت القصاص إلى أن تكلفة إنشاء هذا الصرح تجاوزت 1.2 مليار دولار، بتمويل مشترك بين الحكومة المصرية وقروض ميسّرة من اليابان عبر الوكالة اليابانية للتعاون الدولي. ورغم ضخامة الرقم، فإن المشروع يُعد استثمارًا طويل المدى في البنية السياحية والثقافية، إذ تشير التقديرات إلى أن العائد السنوي المتوقع من السياحة والأنشطة المحيطة بالمتحف قد يتجاوز 300 مليون دولار عند التشغيل الكامل. ويُنتظر أن يستقبل المتحف أكثر من خمسة ملايين زائر سنويًا، ما يجعله أحد أهم المحركات المحتملة للنمو في قطاع السياحة، ويساهم في تنشيط الاستثمارات الفندقية والتجارية بمنطقة الجيزة التي تشهد في الوقت نفسه تطويرًا شاملًا للبنية التحتية ووسائل النقل.
وأضافت شيماء أنه من الناحية الاقتصادية، يشكّل المتحف المصري الكبير ركيزة جديدة لتنويع الاقتصاد المصري وتعزيز موارد النقد الأجنبي. إذ يقدَّر أن يسهم المشروع في رفع عدد الزوار الأجانب إلى ما بين 17 و18 مليون سائح سنويًا، وأن يضاعف الطاقة الاستيعابية اليومية لمنطقة الأهرامات. هذا التدفق السياحي يعزز الطلب على الخدمات والمنتجات المحلية، ويولّد عشرات الآلاف من فرص العمل المباشرة وغير المباشرة، سواء في مجال الإرشاد والنقل السياحي أو في الصناعات الصغيرة المرتبطة بالهدايا والحرف اليدوية والمطاعم والفنادق. كما يساهم المتحف في رفع متوسط إنفاق السائح وزيادة مدة إقامته، بما يخلق نموذجًا جديدًا للسياحة ذات القيمة المضافة العالية.
ويمتد الأثر الاقتصادي إلى دعم ريادة الأعمال المحلية، إذ تحيط بالمتحف منطقة خدمات متكاملة تُحفّز الاستثمارات الصغيرة والمتوسطة، وتحرك عجلة الاقتصاد في محافظتي الجيزة والقاهرة الكبرى. كما يفتح المشروع الباب أمام استثمارات أجنبية جديدة في مجالات السياحة والثقافة والخدمات، ويؤهل مصر لاستضافة فعاليات ومؤتمرات دولية ضمن فئة “سياحة المؤتمرات والفعاليات الثقافية”، وهي من أعلى أنواع السياحة إنفاقًا على مستوى العالم.
أما من الناحية الإدارية، فيُعد المتحف نموذجًا متقدّمًا لإدارة المشاريع القومية الكبرى. استغرق إنشاؤه أكثر من عقدين من العمل المتواصل بمشاركة آلاف الخبراء من مصر واليابان، ومرّ بمراحل دقيقة من التصميم والتمويل والتنفيذ واجتاز تحديات سياسية واقتصادية وتقنية. ورغم ذلك، حافظ المشروع على مستواه العالمي بفضل حوكمة واضحة وإدارة رشيدة قائمة على التخطيط العلمي وإدارة المخاطر والجودة الشاملة. ويضم المتحف أكبر مركز للترميم في الشرق الأوسط، مما يجعل مصر مركزًا إقليميًا للتدريب والبحث في علوم المتاحف والترميم، وهو ما يعزز مكانتها الأكاديمية والعلمية عالميًا.
كما أن نموذج التشغيل المعتمد يرسّخ مفهوم الإدارة المستدامة للمشروعات الثقافية، حيث تم التعاقد مع شركات إدارة متخصصة لضمان الكفاءة التشغيلية، واستحداث مصادر إيرادات متنوعة مثل الفعاليات والرعاية التجارية وتراخيص المنتجات الثقافية، بما يحقق الاكتفاء الذاتي المالي ويحوّل المتحف من عبء على الموازنة إلى أصل يدر عائدًا مستدامًا.