كشفت وقائع حقيقية من تحقيقات نيابة أمن الدولة، قصة استشهاد المقدم محمد مبروك؛ استنادا أيضا إلى أصدقاء الشهيد، فى الكتاب صادر عن دار المعارف باسم 'ضى القمر' للكاتب الصحفى مصطفى بكرى؛ يكشف تفاصيل حياة الشهيد وقصة استشهاده.
وجاء في نص التحقيقات: 'ترك منزله، هبط على السلم مسرعًا، اتجه على الفور إلى منطقة قريبة من مسكنه القاطن فى شارع السنية بحلمية الزيتون.. ألقى بجسده فى أول سيارة «ميكروباص» تقابله.. مضت السيارة بسرعة، وقبيل أن تصل إلى الميدان المجاور، أشار محمد عفيفى للسائق بأن يتوقف، دس فى يده بعض النقود، توجه على الفور إلى مطعم للفول والطعمية يمتلكه فى هذه المنطقة.. ألقى السلام على الواقفين، ثم سرعان ما انتحى بأحد العاملين جانبًا، همس فى أذنيه بكلمات غير مسموعة، بعدها غادر وانصرف إلى جهة غير معلومة.. بعد قليل تبعه عامل المطعم، يبدو أنه توجه إلى مكان آخر، ثم سرعان ما غاب عن الأنظار.
كانت السماء ممطرة فى هذا اليوم، حاول محمد عفيفى الاحتماء بحقيبته التى كان يمسكها، لم تفلح محاولاته، اتجه إلى مقهى جانبى، مواجه لمستشفى الحلمية العسكرى، طلب واحد شاي مظبوط، أخرج من حقيبته كراس قديم، بدأ يتصفح صفحاته ببطء، تقدم نحوه عامل المقهى، وعندما قال له: اتفضل يا ذوق، نظر إليه نظرة ذات دلالة.
كان الوقت يمر بطيئًا، وهو فى عجلة من أمره، وكان يبدو مستاء من صوت الكاسيت الذي يبث أغاني شعبية فى المقهى، كاد يطلب إغلاقه، لكنه تردد وأمسك أعصابه حتى لا يلفت الانتباه.
دق جرس الهاتف المحمول.. بادر على الفور، قائلًا: ألو.. أيوة.. أنا فى انتظارك فى القهوة. بعد قليل كان عامل محل الفول والطعمية قد وصل أمام المقهى، لاحظ محمد عفيفى وص
وله، ترك الحساب أسفل كوب الشاي ومضى إلى الخارج، كان العامل يتقدمه بخطوات، وبالقرب من أحد الشوارع الجانبية، سلمه الحقيبة التى كان يحملها، وقد جاء بها من مكان مجهول، ابتسم محمد عفيفى، ودع العامل، وأعطاه مبلغًا من المال، وانصرف بعيدًا عنه.
مضى محمد عفيفى حاملًا الحقيبة على كتفه، أخرج نظارة سوداء من جيب الجاكت الذى كان يرتديه، وضعها على عينيه، ثم اتجه إلى الشارع الرئيس، نادى على أحد التاكسيات، وطلب منه التوجه إلى منطقة المطرية. نظر إليه السائق وقال له: فين فى المطرية يا باشمهندس؟ تلعثم محمد عفيفى وقال: فى الميدان. رد السائق وقال: فين فى الميدان.. قال محمد عفيفى (بعصبية): هنزل فى الميدان يا أخى، عندك مانع؟!! أشار إليه السائق بالركوب، مضى السائق من شارع إلى آخر حتى وصل إلى ميدان المطرية، طلب محمد عفيفى من السائق أن ينزله جانبًا، دس فى يده قيمة المبلغ المطلوب وتركه متجهًا إلى أحد الشوارع الجانبية.
مضى محمد عفيفى من شارع إلى آخر حتى تأكد أن أحدًا لا يتابعه، اتجه إلى أحد العمارات متوسطة الأدوار، صعد على السلم حتى الدور الثالث، دق الباب ثلاث دقات، بعد قليل كان محمد السيد منصور وكنيته (أبو عبيدة) ينظر من العين السحرية خلف الباب، شاهد محمد عفيفى واقفًا، سأله من خلف باب الشقة.. أبو عبيدة: الدنيا أمان يا محسن (وكان هذا هو كنيته) فرد محمد عفيفى بالقول: كله تمام يا شيخ.
قام أبو عبيدة بفتح الباب على الفور، ودفعه إلى داخل الشقة ثم سرعان ما اتجه إلى السلم، ليتأكد بعينيه أن أحدًا لا يتابع محمد عفيفى، أغلق الباب، واتجه إلى الداخل، وعلى الفور بادر ضيفه بالقول: تشرب إيه يا أخ محسن رد محمد عفيفى بالقول: ربنا يكرمك، أنا أخد شاى يا أخى.. اتجه أبو عبيدة إلى إحدى غرف الشقة، طلب من زوجته أن تعد كوبًا من الشاى لضيفه الذى يجلس فى صالون الشقة، عاد سريعًا إليه، وبادره: يا ترى أحضرت الأمانة.. قال محمد عفيفى: حاجة معتبرة يا شيخ. قال أبو عبيدة: ورينى. وعلى الفور قام محمد عفيفى بفتح الحقيبة التى كانت معه، وأخرج من داخلها رشاش كلاشينكوف ومعه أربعة خزن، أمسك أبو عبيدة بالرشاش، تفحصه جيدًا، وقال له: فعلًا حاجة محترمة، إحنا عاوزين منه ثلاثة كمان.. قال محمد عفيفى، وقد بدا مرتاحًا لحديث (أبو عبيدة): مفيش مشكلة، أنا جبت ده علشان تشوفه وتقرر، أنا عارف خبرتك فى السلاح وأنواعه.
اتجه أبو عبيدة إلى الغرفة الداخلية، بعد أن سمع طرقًا، كانت هناك سيدة منتقبة تمسك بصينية عليها كوبين من الشاى، وجه لها الشكر، وحمل الصينية وعاد ليقدم الشاى إلى ضيفه.. دار حديث بين الرجلين حول خطة التنظيم للفترة القادمة واستغلال أجواء الفوضى التى سادت البلاد فى أعقاب أحداث ثورة الخامس والعشرين من يناير، بعد قليل دق الباب الخارجى، كان الطارق هو محمد بكرى وكنيته (طارق زياد) إنه القيادى الثالث فى تنظيم (أنصار بيت المقدس) خارج سيناء.
شاركهما الحوار، وقد جاء ليودعهما بعد أن قرر السفر إلى سيناء بناء على تكليف من محمد عفيفى (محسن) أمير التنظيم ومحمد السيد منصور (أبو عبيدة) للحصول على دورة تدريبية عسكرية وتلقى التكليفات من قيادة التنظيم.. اتفق الثلاثة على ضرورة الاستعداد للمرحلة المقبلة، لقد جاءتهم الفرصة سانحة، لقد تذكروا السنوات التى قضوها فى سجن الفيوم، وقال لهم محمد عفيفى: لن نندم على شىء ولكن يكفى أنها كانت سببًا فى معرفة الإخوة المجاهدين من أبناء سيناء الذين كان لهم الفضل فى انضمامنا للتنظيم. كان الثلاثة قد سافروا إلى سيناء بعد نشر أنباء عن قيام تنظيم (أنصار بيت المقدس) بتنفيذ عملية ضد جنود من النخبة الإسرائيليين فى أحد المناطق القريبة من قطاع غزة، قرروا الاتصال ببعض أبناء سيناء ممن زاملوهم داخل سجن الفيوم للتعرف على تنظيم أنصار بيت المقدس ومحاولة الانضمام إليه.
لقد سافر الثلاثة محمد عفيفى ومحمد السيد منصور ومحمد بكرى ثلاثتهم إلى سيناء فى شهر يونيو من عام 2011، والتقوا هناك بالمكنى (أبو عبد الله) زعيم تنظيم أنصار بيت المقدس، والمكنى (أبو عماد) مساعده، وتم الاتفاق معهما على أن يكون الثلاثة أذرع التنظيم فى الوادى، أى خارج سيناء، وأيضًا توفير الدعم اللوجيستى وأماكن للهاربين من أعضاء التنظيم فى سيناء حال تعرضهم للمطاردات الأمنية.
كان الاتفاق هو أن يجرى تشكيل خلايا عنقودية، كل خلية من عدد محدود لا يزيد عن خمسة أو ستة أفراد، كل منهما منفصلة عن الأخرى ولا تعرف عنها شيئًا، على أن يستخدم الأعضاء الأسماء الحركية حتى لا يتم الإيقاع بهم. وقد اتفق الثلاثة وباتفاق مع (أبو عبد الله) زعيم التنظيم على تولى محمد عفيفى وكنيته (محسن) إمارة التنظيم، وتولى محمد السيد منصور ومحمد بكرى منصب عضوى مجلس شورى التنظيم خارج سيناء.
قال محمد بكرى: لم يعد هناك وقت، علينا الإسراع بتشكيل الخلايا حتى تكون لنا قوة يعتد بها.. نظر إليه (أبو عبيدة) وقال: ولكن حذار من الإفراط فى التجنيد، علينا باتباع التعليمات حرفيًا. قال محمد عفيفى: لابد أن يحصل الإخوة على دورات تدريبية على يد الجناح العسكرى فى سيناء حتى يستطيعوا القيام بالعمليات الاستشهادية على الوجه الأكمل.. بعد قليل، ودع محمد بكرى زميليه، فغدًا سوف يسافر إلى سيناء، وقد أبلغه (أبو عبيدة) بتفاصيل خط السير لحين الوصول إلى معسكر التدريب فى جوف الصحراء.
لم تكن تلك هى المرة الأولى، لقد سافر محمد بكرى إلى العريش أكثر من مرة، تارة لقضاء إجازة الصيف مع أسرته، وتارة أخرى مع زميليه محمد عفيفى ومحمد السيد منصور لمقابلة أمير جماعة «أنصار بيت المقدس»، لكن الزيارة هذه المرة تختلف كثيرًا، إنها مهمة خاصة جدًا، لا يعلم بها إلا القليل من الأصدقاء الجدد الذين دخلوا فى حياته. ودَّع محمد بكرى أسرته، توجَّه إلى موقف السيارات المغادرة إلى العريش، لقد استقل سيارة أجرة 7 راكب، ضمن آخرين، أخذ لنفسه موقعًا إلى جوار السائق، تعمد التزام الصمت طيلة الرحلة، لقد ضاق ذرعًا بثرثرة السائق، الذى لا يكفُّ عن استعراض مغامراته مع الأكمنة المتعددة على طريق السفر من القاهرة إلى العريش.
دفع محمد بكرى برأسه إلى الخلف قليلًا، كأنه يستعيد ذكرياته التى مضت، لقد طلَّق الحياة التى عاشها على مدى تسعة وعشرين عامًا، إنه الآن شخص آخر، وحتى عمله فى شركة اتصالات المحمول، تركه، وبدأ يعمل فى تجارة الملابس، بعد أن تكرر غيابه كثيرًا عن العمل دون إذن أو عذر مقبول. كان محمد بكرى شابًا يافعًا، طويل القامة، نحيف الجسد، قمحى البشرة، لم يتجاوز الثلاثين من عمره، ينتمى إلى أسرة ميسورة الحال، فوالده أستاذ بكلية العلوم جامعة الأزهر، ووالدته خريجة كلية الحقوق بجامعة عين شمس.
تلقى تعليمه منذ الصغر فى المدارس الأجنبية الخاصة، وعندما كبر التحق بكلية التجارة الخارجية -إنجليزى- بناء على نصيحة من والده. ومنذ البداية طلب منه والده الاعتماد على النفس، وفى عام 2001 قرر السفر إلى مدينة شرم الشيخ، حيث التحق بالعمل فى إحدى القرى السياحية هناك، وظل يعمل طيلة فترات الإجازة الصيفية. كان محمد بكرى فى هذه الفترة يدخن السجائر، ويتعاطى الحشيش والخمور أحيانًا، ويلهو مع زملائه المقربين، لكنه كان دائمًا ساخطًا على هذه الحياة ويشعر بالغربة فى كثير من الأحيان. عندما وقعت أحداث الحادى عشر من سبتمبر فى الولايات المتحدة، وتم ضرب أفغانستان، أدرك أن الحرب على الإسلام قد بدأت، وأنه فى حاجة إلى الإقلاع عن كل شىء والتوجه إلى الله. فى هذه الفترة تعرَّف إلى أحد الدعاة المنتمين إلى جماعة الدعوة والتبليغ، وبدأ يتلقى الدروس الدينية فى أحد المساجد على يديه، وبعدها بدأ يستمع إلى أحاديث الشيخ محمد حسان والشيخ يعقوب ووجدى غنيم. ورويدًا رويدًا بدأ محمد بكرى يتردد على العديد من المساجد إلى أن تعرَّف إلى شخص يدعى كريم بدوى داخل أحد المساجد فى صلاة التراويح، فأهداه كتاب عبد الله عزام عن «حكم الجهاد اليوم»، الذى ينكر فيه ضرورة الحصول على إذن من أولياء الأمر للمشاركة فى الجهاد.بدأ محمد بكرى يتأثر بأفكار أبو مصعب الزرقاوى، فكَّر فى السفر إلى العراق للانضمام إلى تنظيم القاعدة فى هذا الوقت، ولكنه فشل، وتم القبض عليه بعد ذلك ليقضى فى السجن عدة سنوات بدءًا من ديسمبر 2006 حتى أبريل 2009.
كانت فترة السجن بالنسبة له فترة ثرية، قرأ فيها كثيرًا وتعلم الدروس، واستمع إلى غلاة المتشددين، وكان من بين من تعرف إليهم وراء الأسوار محمد عفيفى ومحمد السيد منصور. وعندما خرج محمد بكرى إلى الحياة العامة، وجد نفسه غريبًا عنها، فداوم على الاستماع إلى شيوخ السلفية «الجهادية» وأصبح هو نفسه من غلاة المتشددين، ودخل فى أزمات عديدة مع أسرته بسبب تطرفه وتكفيره لكل المخالفين لأفكاره.
وخلال أحداث ثورة الخامس والعشرين من يناير، كان محمد بكرى يتردد على ميدان التحرير، ويتعرف إلى الكثير من الشباب الذين تجاوبوا مع أفكاره وبدأ يقيم معهم حوارات عديدة ويدعوهم إلى الاستماع لخطب أئمة السلفية الجهادية الذين كانوا يتحركون بِحُرِّية بعد انهيار الشرطة فى 28 يناير. تذكر منذ أن سافر مع زميليه إلى سيناء، والتقوا (أبو عبد الله)زعيم التنظيم فى يونيو من عام 2011 وأصدر إليهم التكليفات ومنحوه البيعة على السمع والطاعة. بدأ الثلاثة يشكلون خلايا عنقودية داخل بعض المدن المصرية، كل منها لا تعرف الأخرى، وقاموا بتجهيز أعداد من «الاستشهاديين» لتنفيذ العمليات التى يقررها التنظيم. وكان نص البيعة يقول: «أبايعك على السمع والطاعة فى المنشط والمكره والعسر واليسر فيما استطعت».