اعلان

قصة استشهاد المقدم محمد مبروك.. المهام المسندة إليه ودور زوجته في حياته (الحلقة الثانية)

  المقدم محمد مبروك
المقدم محمد مبروك
كتب : أهل مصر

كشفت وقائع حقيقية من تحقيقات نيابة أمن الدولة، قصة استشهاد المقدم محمد مبروك؛ استنادا أيضا إلى أصدقاء الشهيد، فى الكتاب صادر عن دار المعارف باسم 'ضى القمر' للكاتب الصحفى مصطفى بكرى؛ يكشف تفاصيل حياة الشهيد وقصة استشهاده.

ونرصد في الحلقة الثانية من الوقائع، جانبا من حياة الشهيد المقدم محمد مبروك الخاصة، والتي كشفت مهامه إبان ثورة الـ 25 من يناير وقصة زواجه.

قصة استشهاد المقدم محمد مبروك.. المهام المسندة إليه وقصة زواجه

'كانت السيارة البيجو تمضى سريعًا باتجاه مدينة العريش فى سيناء، بينما كان طارق غارقًا فى الذكريات، بين ما كان يسميه رحلة «الضلال» ورحلة «الإيمان». اقتربت السيارة من أحد الأكمنة بالقرب من مدينة العريش، أطلق السائق كلماته الساخرة: يا ناس يا عسل، الكمين وصل، كله يحضَّر بطاقاته تنبه محمد بكرى لتحذيرات السائق، لقد بدا متماسكًا، ومتنمِّرًا، ومستعدًا. هدَّأت السيارة من سرعتها، تقدم ضابط صغير برتبة نقيب وحوله أربعة من الجنود المسلحين بالبنادق الآلية، طلب من السائق رخصتى السيارة والقيادة، كان السائق جاهزًا بهما، اطلع الضابط على الرخصتين، لفت انتباهه محمد بكرى الجالس فى المقدمة، قال له بلغة حاسمة: بطاقتك!! نظر إليه محمد بكرى نظرة لا تخلو من معنى، مد يده ببطء إلى جيبه، وقبيل أن يقدم بطاقته للضابط، إذ بسيارتين «شيروكى» فى طريقهما من مدينة العريش إلى القاهرة.

يبدو أن المحافظ يعبر باتجاه الكمين. ترك الضابط ركاب السيارة، واتجه إلى الجانب الآخر لتقديم التحية إلى المسئول الكبير، وأشاح بيده للسائق، أن يمضى سريعًا نحو وجهته. تنفس محمد بكرى الصعداء، خاصة أنه يحمل بطاقة مزورة باسمه الحركى، وتخوف من اكتشاف أمره، فتضيع بذلك عليه فرصة الالتحاق بمعسكر التدريب الذى ينتظره فى جوف الصحراء. كان أبو عبيدة قد اختار محمد بكرى ليلتحق بالمعسكر، وأخضعه لاختبارات متعددة، لقد جرى ترتيب الأمور له جيدًا، وأعطاه أحد أرقام الهواتف السرية لمندوب جماعة بيت المقدس فى سيناء. عندما هبط محمد بكرى من السيارة فى الميدان الرئيس لمدينة العريش، أجرى اتصالًا هاتفيًا عبر هاتفه النقال مع أحد الأشخاص ليبلغه بخبر الوصول. لقد طلب منه حسام أن ينتظره على أحد المقاهى المجاورة وأعطاه وصف السيارة التى ستصل إليه بعد عشر دقائق.

الإرهابي أبو عبيدة

احتسى محمد بكرى كوبًا من الشاى فى المقهى المجاور، كان هناك شخص آخر فى الانتظار واسمه الحركى «آدم»، تقدم الاثنان بحذر نحو السيارة التى وصلت منذ قليل، أحدهما جلس فى المقعد الأمامى والآخر فى المقعد الخلفى. كانت كلمة السر «أبو عبد الله»، ابتسم السائق وبدأ رحلة الغوص فى جوف الصحراء، وبعد نحو ساعة وأربعين دقيقة من السير، اتجهت السيارة نحو منزل فى وسط الصحراء، وكان هناك ثلاثة أشخاص فى الانتظار يتقدمهم شخص ملثَّم.. قال الملثم موجهًا حديثه إلى محمد بكرى وآدم: «سوف تتعلمان كل شىء.. علم رفع المنشآت وتحديد الاتجاهات الأربعة لمعرفة المسافات بينك وبين أى هدف، وفك وتركيب الأسلحة والدوائر الإلكترونية للتفجير، علاوة على التدريبات العملية». وجد محمد بكرى نفسه وسط مجموعة من الأعضاء عددهم ستة آخرين، جميعهم تدربوا داخل هذا البيت الفسيح، ثم جرى نقلهم بعد ذلك إلى منطقة صحراوية بعيدة تدربوا فيها على إطلاق الرصاص وعمليات التفجير.

انتهت الدورة العسكرية بسلام، كانت التعليمات تقضى بالسرية التامة، خاصة أنه جرى منذ البداية إلباسهم نظارات سوداء لا يرون من خلفها شيئًا وذلك حرصًا على سلامة وأمن التنظيم وأماكن تدريباته.. عاد محمد بكرى إلى القاهرة بنفس الطريقة، ركب سيارة بيجو سبعة راكب، وإلى جواره جلس آدم، ومضت بهم السيارة دون عوائق حتى نهاية الوصول. كانت مصر فى هذا الوقت تموج بالمظاهرات وحالات الانفلات والفوضى التى ظلت مستمرة بعد ما جرى فى الخامس والعشرين من يناير.. لقد طفا على السطح فى هذا الوقت العديد من المنتمين للتيارات الإسلامية المتشددة، خاصة بعد أن تم إطلاق العديد من قادتهم من السجون. لقد بات محمد بكرى مقتنعًا بأن تطبيق الشريعة الإسلامية لن يتم إلا بالجهاد، إلا إذا تولى أمر الحكم حاكم مسلم يطبِّق حكم الله وشريعته فى الأرض، وكان لديه اعتقاد يقينى بأن ذلك حتمًا سيتم برضاء الشعب وقوة الحاكم.

وكان محمد بكرى فى حديثه مع مجموعات «الإخوة» يرى أن الطائفة الممتنعة من رجال «الجيش والشرطة والقضاء» يتوجب قتالهم حال رفضهم تطبيق الشريعة الإسلامية، لكنه كان يقول دومًا: «علينا الانتظار لبعض الوقت، ولحين المجىء برئيس إسلامى للجمهورية».

العودة إلى القاهرة

عندما عاد محمد بكرى إلى القاهرة بعد فترة التدريب التى امتدت لنحو أسبوعين داخل سيناء، التقى مع محمد عفيفى أمير التنظيم ومحمد السيد منصور عضو مجلس الشورى، وكان الاجتماع مخصصًا لبحث الأوضاع التنظيمية المتعلقة بالخلايا العنقودية التى يجرى التعامل معها، ومدى استعدادها لتنفيذ عمليات واسعة لاغتيال بعض الرموز خاصة من ضباط الأمن الوطنى.

كانت الخطة التى وضعت مسبقًا فى البداية تقضى باستقطاب العناصر الذين تتوافر فيهم الشروط لبدء تشكيل الخلايا العنقودية بعد فترة اختبار يتم فيها التأكد من التزام العضو بالبرنامج وتنفيذ التكليفات التى تصدر إليه من مسئوله والتأكد من التزامه بمبدأ السمع والطاعة والاتفاق فكريًا مع رؤية التنظيم والتى تكفر وتسعى إلى التغيير بالقوة للأنظمة التى لا تطبق الشريعة الإسلامية.

وبالفعل بدأت القيادة تمارس دورها، وتبدأ عملية التجنيد فى عدة محافظات ومنها خلية المطرية وخلية الجيزة وخلية بلقاس بالدقهلية، وكان هناك شرطًا يجب على العضو أن يلتزم به عندما يقع عليه الخيار، وهو أن يقطع جميع علاقاته بجميع الأخوة وأن يغير أرقام هواتفه وألا يؤدى الصلاة فى المساجد التى يتردد عليها بعض (الأخوة الملتزمين)، وهكذا بدأت عملية الانطلاقة لينتشر فكر التنظيم فى العديد من المحافظات، ويستقطب العشرات من الكوادر المؤهلة للقيام بهذه المسئولية.

وقد تولى محمد السيد منصور (أبو عبيدة) فى هذا الوقت المسئولية عن إنشاء خلية الفيوم والتى تم تكوينها فى النصف الأول من عام 2013، وفى ظل حكم جماعة الإخوان، وأيضًا تولى مسئولية الإشراف على خلية التنظيم بمحافظة قنا. أما خلية المطرية، وهى التى ستلعب فيما بعد الدور الأهم فى عمليات الرصد والاغتيال، خاصة محاولة اغتيال وزير الداخلية السابق محمد إبراهيم، واغتالت المقدم محمد مبروك الضباط بجهاز الأمن الوطنى وعملية مسطرد والباسوس، فقد تولى تجنيد أعضائها إلى جانب (أبو عبيدة) المدعو عمر رفاعى والتى ضمت فهمى واسمه الحركى (هانى) وهو يعمل فى إحدى شركات الغاز، وسمير واسمه الحركى (شادى) ويعمل مقاول بناء ومحمد واسمه الحركى (كيمو) وهو ينتمى إلى محافظة بنى سويف، كما تم تجنيد الحركى (حمكشة) والحركى (عمار) وربيع واسمه الحركى «شيكو» وهو صاحب ورشة حدادة وأسامة سعيد واسمه الحركى (سامح)وهو يعمل مع والده فى محل سوبر ماركت، وأنيس إبراهيم واسمه الحركى «نجم» وسعيد شحات واسمه الحركى «هيثم».

  المقدم محمد مبروك

وكانت هناك خلية أخرى يتولى الإشراف عليها محمد بكرى وكنيته «طارق زياد» وتضم عمرو سلطان واسمه الحركى «كريم» وعزت شعبان واسمه الحركى «أبو يوسف». كانت مهمة محمد عفيفى، أمير التنظيم هى التواصل مع مسئولى الخلايا وإصدار التكليفات العامة للعمليات التى يطلب تنفيذها ضد رجال الجيش والشرطة والقضاء والمسيحيين وأيضًا الإشراف على عدد من الخلايا المتخصصة التابعة للتنظيم مثل خلية الإعلام، ودورها هو إعداد البيانات والأفلام الوثائقية التى يجرى بثها عن العمليات التى يجرى تنفيذها، وخلية (المهندسين)ومهمتها تصنيع الدوائر الإلكترونية للتفجيرات، وقد صدرت التعليمات لهذه الخلية بالتجمع فى إحدى شقق منطقة الشيخ زايد بمدينة السادس من أكتوبر، وقد نجحوا فى التوصل إلى تقنيات متقدمة ومنها ما يسمى بدائرة التليفون المشفرة (الشباك) وهى عبارة عن تفجير يتم من على بعد من خلال جهاز الموبايل، حيث يتم الاتصال بالتليفون الموصل بالعبوة، ويفتح الخط تلقائيًا، ثم يتم إدخال الشفرة وهى رمز (الشباك) لحدوث التفجير، وأيضًا تقنية أخرى، هى (التايمر) وهى عبارة عن ضبط للدائرة للتفجير فى وقت محدد.أما الخلية المتخصصة الثالثة، فهى الخلية الكيميائية وكان دورها عمل التجارب لتصنيع أفضل (صاعق شعبى) للتفجير.

وكان هناك محمد فتحى الشاذلى عضو التنظيم الذى تم تجنيده بواسطة محمد بكرى وكنيته (طارق زياد) وهو صاحب مزرعة على طريق بلبيس باتجاه الشرقية، وقد تم تجنيده فى بدايات عام 2013، وبداخل المزرعة بنى بيتًا من دور واحد لاستخدامه كمسكن لإيواء المطاردين من عناصر التنظيم، وأيضًا كمخزن للمتفجرات وتجهيز السيارات المفخخة، وكان يلازمه دومًا عضو التنظيم (محمد ربيع) الذى كان مطلعًا على الكثير من أمور التنظيم فى العديد من المحافظات. وقد بعث التنظيم فى هذا الوقت بالحركى «كيمو» صاحب الخبرة فى تصنيع المتفجرات ليقيم فى المزرعة ويؤدى عمله هناك. كانت كل الاستعدادات قد اكتملت، غير أن ساعة التنفيذ لم تحدد فى هذا الوقت، وكان الاتجاه هو الانتظار قليلًا، ومنح جماعة الإخوان الفرصة لبعض الوقت لتصفية هؤلاء الضباط وإبعادهم عن مواقعهم، خاصة بعد وصولهم إلى الحكم وتولى محمد مرسى منصب رئيس الجمهورية.

الشهيد المقدم محمد مبروك

كان المقدم محمد مبروك -الضابط بجهاز الأمن الوطنى- واحدًا من أهم كوادر هذا الجهاز، كان مسندًا إليه متابعة جماعة الإخوان فى ظل عمله بجهاز مباحث أمن الدولة السابق قبل تفكيكه واقتحام مقراته فى كافة أنحاء الجمهورية. لقد نجح محمد مبروك فى تسجيل المكالمات التي تمت بين محمد مرسى عضو مكتب إرشاد الجماعة وبين أحمد عبد العاطى مسئول التنظيم الدولى للإخوان فى تركيا، وهى المكالمات التى أثبت فيها علاقة الجماعة بالأمريكان وأطراف أجنبية أخرى عديدة، خاصة قبيل أيام قليلة من اندلاع أحداث الخامس والعشرين من يناير من عام 2001، فكان سببًا فى سجن أربعة وثلاثين من قياداتهم فى سجن وادى النطرون بتهمة التخابر. كان محمد مبروك يشعر بجرح غائر بسبب ما آلت إليه أحوال البلاد من أزمات أدت إلى انهيار جهاز الشرطة، وكان فى غاية الحزن من حرب الإثارة التى كان يشنها الإعلام ضد هذا الجهاز الذى شكَّل حلمه منذ الصغر، كان يعرف كيف يؤدى رجاله عملهم بإخلاص على حساب أسرهم وعائلاتهم، وكان يعزُّ عليه أن يشاهد زوجته «رشا» وأبناءه زينة (12 سنة) ومايا (10 سنوات) وزياد (6 سنوات)، وهم يسألونه: لماذا أصبح الناس يكرهون رجال الشرطة وعائلاتهم؟ أدرك محمد مبروك يقينًا أن البلاد تتعرض لمؤامرة كبرى، وأن هدم جهاز الشرطة هو صنيعة إخوانية صرفة، لكنه كان يعرف أن أحدًا لن يستمع إلى كلماته فى هذا الوقت.. كان يقول لأسرته دومًا: «المهم أن تبقى مصر، مهما كان الثمن، حتى ولو كان الثمن أرواحنا جميعًا». فى هذا الوقت كان محمد مبروك يبلغ من العمر أربعين عامًا، لقد حقق أمنيته فى الالتحاق بكلية الشرطة منذ زمن طويل، كان الابن الوحيد والمدلل لوالده مبروك خطَّاب الذى أصيب بالشلل بعد أن كان يعمل مستشارًا للشئون القانونية بوزارة الأوقاف، وكانت والدته الحاجة روحية تحنو عليه كثيرًا وتشعر بأن الله منَّ عليها به بعد طول انتظار، وكانت تعمل مدرسة فى هذا الوقت.

استشهاد المقدم محمد مبروك

كان محمد مبروك مرتبطًا بوالديه إلى أقصى حد، تزوج من الشابة «رشا» التى تعرف عليها بالصدفة، والتى أحبته بكل جوارحها، وتحملت عبء تربية الأبناء، فى وقت كان فيه زوجها منهمكًا فى عمله منذ الصباح حتى وقت متأخر من المساء. كانت رشا الأم، تحل مشكلاتهم، وتتابع أحوالهم المدرسية، وكانت بارة بوالدَىْ زوجها، فتتزاور معهما هى والأولاد بشكل مستمر، وحتى فى أعياد الميلاد كانت دومًا تصر على أن تتم فى بيت الحاج والحاجة، وكان محمد مبروك يقول لها دومًا: «أنا ورايا راجل»!! كانت هموم ومشاغل محمد مبروك كبيرة، كان مخلصًا فى عمله إلى أقصى الحدود، وكان رؤساؤه يحمِّلونه دائمًا المزيد من الأعباء، ثقةً فيه وفى إخلاصه، وكانت معرفته بتنظيم الإخوان وعناصره ووعيه بمخططاته تجعله دومًا المرجعية والحجة للكبار الذين كانوا يستمعون إليه بإعجاب منقطع النظير، ويقرأون تقاريره المعلوماتية والتحليلية بنهم شديد.وكان محمد مبروك طيبَ القلب، يؤدى الصلوات فى مواعيدها، ويرقُّ لحال الفقراء الذين يلتقيهم فى الشارع.. كانت أجمل لحظات حياته عندما ذهب لأداء فريضة الحج مع والديه وزوجته فى عام 2010. وكانت أصعب اللحظات التى واجهته عندما علم صدفة أن والدته قد أصيبت بالسرطان.

زوجة المقدم محمد مبروك

لقد صممت والدته على إخفاء الخبر عنه، بعد أن جرى اكتشاف المرض فجأة ودون سابق إنذار، ساعتها طلبت من زوجها ألا يعلم نجلهما الوحيد محمد بالأمر، لأنها تعرف مدى حبه لها، وقلقه عليها. عندما علم محمد مبروك بالأمر، ترك كل شىء، وذهب إلى منزل والديه مسرعًا، وظل يحضنها ويبكى، غير مصدق، وكان عاتبًا على والده أنه لم يبلغه بالمرض، فكانت الأم تخفف من حزنه وتقول له، إنها كانت السبب وراء إخفاء الخبر عنه، خوفًا عليه.

منذ هذا الوقت تسلل الحزن العميق إلى محمد، الذى كان يقول دومًا إنه لا يتخيل لنفسه حياةً من بعد والدته، كان يحرص على أن يتحدث معها فى الصباح والمساء، وكان يقتنص بعض الوقت ويذهب لزيارتها بين الحين والآخر، ومتابعة حالتها الصحية. ولم يكن الأب بأحسن حالًا، فقد أصيب بالشلل منذ فترة وظل قعيدَ المنزل، لا يخرج إلى الشارع إلا فيما ندر.

WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً